فقد استخدموا القياس أحيانا بدون استناد إلى أى سماع ، ونضرب لذلك مثلا قياسهم العطف بلكن فى الإيجاب على العطف ببل فى مثل «قام زيد بل عمرو» فقد طبقوا ذلك على لكن وأجازوا «قام زيد لكن عمرو» بدون أى سماع عن العرب ، يجيز لهم هذا القياس (١).
وربما كان من أهم ما يدل على أنهم كانوا يرفضون السماع أحيانا وبالتالى يرفضون ما يبنى عليه من قواعد وأحكام أنهم رفضوا الاعتداد بما رواه سيبويه فى الكتاب من إعمال أسماء المبالغة فى أقوال العرب الفصحاء وأشعارهم ، فقد روى قولهم فى الاختيار : «أما العسل فأنا شرّاب» بنصب العسل مفعولا به لشراب ، كما روى طائفة من الأشعار ، عملت فيها صيغ فعول ومفعال وفعيل وفعل ، وعلى الرغم من ذلك كان الكسائى والفرّاء ينكران عمل هذه الأسماء محتجين هم وأصحابهم بأنها فرع عن أسماء الأفعال ، وأسماء الأفعال فرع عن الفعل المضارع ، ولذلك ضعف عملها (٢). ومما رفضوا فيه السماع لاسماع أبيات قد تكون شاذة ، بل سماع إحدى القراءات إعمال إن المخففة من الثقيلة النصب ، فقد زعموا أن الثقيلة إنما عملت لشبهها بالفعل الماضى فى بنائها على ثلاثة أحرف وأنها مبنية على الفتح مثله ، فإذا خفّفت زال شبهها به فوجب أن يبطل عملها ، ولم يلتفتوا لاحتجاج البصريين عليهم بقراءة نافع وابن كثير ـ وهى من القراءات السبع ـ : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ)(٣). وكأنما حجبهم التعليل المنطقى الخالص ، سواء فى هذه المسألة أو فى سابقتها ، عن منطق اللغة وتصاريف عباراتها الفصيحة السليمة.
وفى هذا ونحوه ما يردّ أقوى رد على من يزعمون أن الكوفيين كانوا أكثر بصرا بروح اللغة وأدق حسّا وأنهم لم يخضعوا ـ مثل البصريين ـ للمنطق والفلسفة ، فقد كانوا يخضعون بدورهم لهما ، بل ربما زادوا عنهم خضوعا أحيانا على نحو ما تصوّر ذلك المسألتان السالفتان. ومعروف أن الفراء ، وهو الواضع الحقيقى للنحو الكوفى ، كان معتزليّا ومتكلما متفلسفا ، بل قال المترجمون له إنه كان
__________________
(١) المغنى ص ٣٢٤ والهمع ٢ / ١٣٧.
(٢) مجالس ثعلب ص ١٥٠ ، ٢٣٦ وانظر الكتاب ١ / ٥٦.
(٣) الإنصاف : المسألة رقم ٢٤.