عللا وراءها. وقانون القياس عامّ ، وظلاله مهيمنة على كل القواعد إلى أقصى حد ، بحيث يصبح ما يخرج عليها شاذّا ، وبحيث تفتح الأبواب على مصاريعها ليقاس على القاعدة ما لم يسمع عن العرب ويحمل عليها حملا ، فهى المعيار المحكم السديد.
وعلى هذه الشاكلة شادت البصرة صرح النحو ورفعت أركانه ، بينما كانت الكوفة مشغولة عن ذلك كله ، على الأقل حتى منتصف القرن الثانى للهجرة ، بقراءات الذكر الحكيم ورواية الشعر والأخبار ، وقلما نظرت فى قواعد النحو إلا ما سقط إلى بعض أساتذتها من نحاة البصرة إذ كانوا يتتلمذون لهم ويختلفون إلى مجالس محاضراتهم وإملاءاتهم. وكان القدماء يعرفون ذلك معرفة دقيقة ، فنصّوا عليه بعبارات مختلفة ، من ذلك قول ابن سلام : «وكان لأهل البصرة فى العربية قدمة وبالنحو ولغات العرب والغريب عناية» (١) ويصرح ابن النديم فى هذا المجال تصريحا أكثر وضوحا إذ يقول فى حديثه عن نحاة الكوفة والبصرة : «إنما قدمنا البصريين أولا ، لأن علم العربية عنهم أخذ» (٢). وحاول بعض المستشرقين أن يصلوا بين نشوء النحو فى البصرة والنحو السريانى واليونانى والهندى غير أنه لا يمكن إثبات شىء من ذلك إثباتا علميّا وخاصة أن النحو العربى يدور على نظرية العامل وهى لا توجد فى أى نحو أجنبى ، وكل ما يمكن أن يقال إنه ربما عرف نحاة البصرة الأولون أن لبعض اللغات الأجنبية نحوا ، فحاولوا أن يضعوا نحوا للعربية راجعين فى ذلك إلى ملكاتهم العقلية التى كانت قد رقيت رقيّا بعيدا بتأثير ما وقفوا عليه من الثقافات الأجنبية ، وخاصة الفلسفة اليونانية وما يتصل بها من المنطق ، مما دعم عقولهم دعما قويّا ، وجعلها مستعدة لأن تستنبط قواعد النحو وعلله وأقيسته.
ويظهر أنه كفل للبصرة من الصلة بهذه الثقافات فى القرن الثانى للهجرة ما لم يكفل للكوفة ، فقد كانت مرفأ تجاريّا للعراق على خليج العرب. فنزلتها
__________________
(١) ابن سلام ص ١٢.
(٢) الفهرست ص ١٠٢.