سيّالا. ونرى تلميذه ابن جنى فى كتابه الخصائص يعترف دائما بأنه هو الذى فتح له هذا الباب أو ذاك فاكّا لطلاسمه وألغازه ومثيرا لمشاكله ومسائله. وكان تارة ينتخب لنفسه من الآراء البصرية ، وتارة ثانية ينتخب من الآراء الكوفية ، وتارة ثالثة يجتهد وينفرد بآرائه ، موثقا لها بالسماع والتعليل الرائق والقياس الثاقب. وعلى أقباس من هذا المنهج البغدادى للفارسى استضاء ابن جنى فى آرائه النحوية ، فمرة يوافق البصريين ومرة يوافق الكوفيين ، وقد يخالفهما جميعا كما يخالف البغداديين الأولين ، وهو كذلك قد يوافق أستاذه وقد يخالفه حسب ما يرشده إليه اجتهاده. وربما كان أروع أعماله وضعه لأصول التصريف الكلية على نحو ما يرى القارئ فى كتابه الخصائص. وقد استطاع هو وأستاذه بقوة شخصيتيهما أن يدفعا النحاة من بعدهما فى اتجاههما ، فقلما ظهر نحوى لم ينضو تحت لوائهما مستظهرا لمنهجهما وما أخذا به أنفسهما من الاختيار الحر من آراء المدرستين البصرية والكوفية وكذلك من آرائهما مع محاولة الاجتهاد والنفوذ إلى استنباط آراء جديدة على نحو ما يلقانا عند الزمخشرى وابن الشجرى وأبى البركات بن الأنبارى وأبى البقاء العكبرى وابن يعيش.
وأخذت أبحث بعد ذلك فى المدرسة الأندلسية ، وحاولت أن أستبين خطواتها الأولى فى اتصالها بالمدرستين الكوفية والبصرية ، وكيف استقام لها منذ القرن الخامس الهجرى تمثّل المنهج البغدادى ، مع الإكثار من التفريعات والتعليلات واستنباط الآراء ، ولا يكاد يمرّ عصر أو تمر فترة دون أن يظهر هناك إمام نحوى كبير ، بل مجموعة من الأئمة الكبار ، وقد حاولت الإحاطة بهم وبآرائهم ، بادئا بالأعلم الشنتمرى ، ومتحولا منه على الترتيب إلى ابن السيد البطليوسى وابن الباذش وابن الطراوة وابن الرمّاك وابن طاهر والسهيلى والجزولى وابن خروف والشلوبين وابن هشام الخضراوى. وعرضت فى إيجاز ثورة ابن مضاء على النحو ومباحثه لتضخم ما شاع فيه بسبب نظرية العامل من تقديرات وتأويلات وأقيسة وتعليلات وتفريعات لا تكاد تنحصر ، كما عرضت لابن عصفور واختياراته من آراء البصريين والكوفيين والبغداديين واجتهاداته المستقلة. وبسطت القول فى ابن مالك واجتهاداته واختياراته وكيف كان يذكر الشواذ ولا يقيس عليها مثل الكوفيين ، وأيضا لا يؤوّلها