ولعله أول من فتح فى الإعراب ما يمكن أن نسميه بالاحتمالات ، إذ نراه يعرض فى كثير من الأمثلة وجوها مختلفة لإعرابها ، وتتضح آثار ذلك فى مواضع من الكتاب ، على نحو ما يلقانا فى باب النعت ، إذا كان فى تعظيم أو مدح أو ذم ، فقد كان يجيز فيه الإتباع لسابقه ، والقطع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أو مفعولا به لفعل محذوف (١) ، ونقل عنه سيبويه فى قولهم : «هذا رجل صدق معروف صلاحه» أنه يجوز فى كلمة «معروف» أن تكون نعتا لرجل ، وأن تكون حالا منصوبة كأن كلمة رجل نالها شىء من التعريف بإضافتها إلى صدق ، وجوّز أن تكون خبرا مقدما لكلمة «صلاحه» (٢). ومن يقرأ توابع المنادى فى سيبويه يلاحظ توّا أنه هو الذى ردّد الرفع والنصب فى بعض أمثلة هذه التوابع كالنعت مثلا فقد جوّز فيه أن يقال «يا زيد الطويل والطويل» بالضم والنصب ، أى حملا على ظاهر المنادى أو على محله. وكذلك الشأن فى التوكيد مثل «يا تميم أجمعون أو أجمعين» ومثله البدل ، ونكتفى بهذه القطعة من كلام سيبويه : قال الخليل «إذا قلت يا هذا وأنت تريد أن تقف عليه ثم تؤكده باسم يكون عطفا عليه فأنت فيه بالخيار إن شئت نصبت وإن شئت رفعت وذلك قولك يا هذا زيد ، وإن شئت قلت زيدا ، يصير كقولك ، يا تميم أجمعون وأجمعين ، وكذلك يا هذان : زيد وعمرو ، وإن شئت قلت : زيدا وعمرا ، فتجرى ما يكون عطفا (أى تابعا) على الاسم مجرى ما يكون وصفا ، نحو قولك : يا زيد الطويل ويا زيد الطويل» (٣).
وعلى هذا النحو كان الخليل يكثر من الاحتمالات فى وجوه الإعراب للصيغ والألفاظ والعبارات كما كان يكثر من التأويل والتخريج حين يصطدم ببعض القواعد التى يستظهرها ، وهو فى تضاعيف ذلك يحلل الألفاظ والكلام تحليلا يعينه على ما يريد من توجيه الإعراب ومن التأويل والتفسير ، ومن طريف تفسيراته ما ذكره سيبويه من أنه سأله عن قوله جلّ وعزّ : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) فإن ظاهر العبارة أن غير الله منصوبة بتأمرونىّ ، وفى ذلك فساد
__________________
(١) انظر الكتاب ١ / ٢٤٨ وما بعدها.
(٢) الكتاب ١ / ٢٦٣.
(٣) الكتاب ١ / ٣٠٧.