ترى كيف تمثّل الجنة التي وعد المتقون ـ في استفهام انكاري هكذا ـ ب (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) لا بالنار؟ علّه لأن المتقين هم الجنة والطاغون هم النار ، جنة في جنة ونار في نار ، أو أن استفهام التماثل هنا يعم الجنة بالنار وأهل الجنة بأهل النار ، فذكرت الجنة أولا : (مَثَلُ الْجَنَّةِ) ولأنها من فضل الله ، ثم أهل الجنة (الْمُتَّقُونَ) إذ يدخلونها بفضل الله ، فهي هي الأصل وهم الفروع ، ثم ذكر أهل النار ثانيا (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ) ثم النار : (فِي النَّارِ) لأنهم هم وقود النار وأصلها ، فالنار هي الفرع!.
وترى ما هذا الماء الحميم الذي يسقونه فيقطع أمعاءهم ولماذا يشربونه؟
إنه الحار لدرجة الحمّة القمّة في الحرارة : أن لو كان حديدا لذاب سائلا ، وهو الصديد : (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) (١٤ : ١٦) يصد عنهم رمق الحياة وما هم بأموات! وكالمهل : دردي الزيت المغلي : (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) (١٨ : ٢٩) فكأنهم إذ يسقون الحميم الصديد مستغيثين من العطش المهلك ، يرون أنه ماء يخفف الوطئة فيشربونه ، أو لا يملكون لأنفسهم عنه صرفا فيتركونه ، ولو يكرهونه (١) ولكنه ماء في الظاهر وبلاء في الأثر : يشوي الوجوه إذ تواجهه ، ويقطع الأمعاء إذ يدخلها!
وهم بعد إذ قطّع الماء أمعاءهم يبدلون أمعاء غيرها ليذوقوا العذاب و (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) شيء : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) (٤ : ٥٦) وهي جلود الأرواح : الأبدان بما ظهر منها وما بطن.
__________________
(١) مجمع البيان روى ابو امامة عن النبي (ص) في قوله (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) قال : يقرب اليه فيكرهه فإذا دنى منه شوى وجهه ووقع فروة رأسه فإذا شرب قطع امعائه حتى يخرج من دبره يقول الله عز وجل (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ).