المقام يقتضي ذكر المعلم الأعلم ـ ف (شَدِيدُ الْقُوى) هو الله لا جبرئيل.
ثم جبريل ، مهما كان وسيطا في الوحي المفصل أو معلمه فيه ، فلم يكن وسيطا في محكمه ، ولا سيما وحي المعراج ، وقد عرج عنه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وحيدا إلى سدرة المنتهى ، وما فوقها ، (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى. فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) وهذه الآيات تخص وحي المعراج ضمن ما يعم وحي القرآن كله ، مفصله ومجمله ، فلم يكن هناك جبرئيل حتى يكون معلمه ، إذ تركه صلّى الله عليه وآله وسلّم عند السدرة وقبل العرش قائلا : تقدم يا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم! ليس لي أن أجوز هذا المكان ولو دنوت أنملة لاحترقت» (١) فشديد القوى هو الله وليس جبرئيل.
ولئن كان جبرئيل معلمه صلّى الله عليه وآله وسلّم وحتى في وحي المعراج ، فليس الرسول كمتعلم عبدا لجبرئيل ، إذا فما ذا يعنى من : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) ولا مرجع مسبق لضمير الغائب هنا إلّا شديد القوى ، فهل أصبح جبرئيل الوسيط في الوحي معبودا للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وليس هذا الإيحاء إلّا ذلك التعليم : فمن المستحيل هنا أن يكون شديد القوى هو جبرئيل.
ثم لا نرى تصريحا في القرآن ولا تلويحا أن جبرئيل كان معلم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم. وإنما نازلا بالوحي إلى قلبه المنير نجوما طوال البعثة ، بعد الوحي المحكم النازل عليه ليلة القدر دون وسيط : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) (٢٦ : ١٩٤) ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه وكما الرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كان أفقه من جبريل وكما عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم : «روح القدس في الجنان الصاغورة قد ذاق من حدائقنا الباكورة» ثم ولم يكن نزوله بالوحي المفصل لحاجة ذاتية من الرسول الى الوسيط ، وهو أفضل من موسى الذي أنزلت عليه التوراة دون وسيط ، وإنما ليثبت الذين
__________________
(١) تفسير روح البيان ج ٩ ص ٢٢٤ في رواية ، ورواها في المناقب ابن عباس قال : فلما بلغ الى سدرة المنتهى وانتهى الى الحجب قال جبرئيل : تقدم يا رسول الله (ص)! ليس لي ان اجوز هذا المكان ولو دنوت أنملة لاحترقت.