ثم لا يعنى من القوى ما تعنيه الفلسفة في صلاحاتها ، أنها قبال الفعليات ، وإنما هي القدرات ، ولام الاستغراق الداخلة على الجمع «القوى» تجعلها تستغرق كافة القدرات الإلهية ، غير المحدودة ، إنها شديدة متينة وليست ضعيفة وهينة ، ومن شدتها لا محدوديتها ، ومنها أزليتها وأبديتها ، ومنها وحدتها في حين كثرتها ، وكثرتها على وحدتها ، فالله تعالى علّم هذا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وحيه بكل القوى ، فما أبقى ما يمكن وحيه إلا أوحى ، علّمه ما لم يعلّمه أحدا من العالمين ، من الملائكة والجنة والناس أجمعين ، وما لن يعلّمه أحدا من العالمين ، فإنه خاتمة الوحي ، الذي بالإمكان تعليمه لأفضل الخلق أجمعين.
ففي وحي القرآن من الشدة والقوة الربانية ما ليس في غيره من وحي ، فالقرآن النازل من شديد القوى ، إنه شديد في كافة القوى ، مشدود بالقدرات الربانية كلها ، متحلل عن كلّ وهم ووهن ، عزيز بعزة الله ، ومجيد بمجد الله : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) ـ (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ).
فنجم القرآن الهاوي على قلب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم الهادي الحاوي ما يمكن هديه من سماء الوحي ، إنه فقط ، وبطلائعه دليل من أنه كتاب الله ، وان حامله النجم المحمدي رسول الله. ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى.
إن هو إلا وحي يوحى. علّمه شديد القوى :
(ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى. وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى)
المرير والممرّ : المفتول ، وذو مرة هو محكم الفتل. وصيغته الاخرى «ذو قوة» ولكن المرة مضمّن فيها المرور فهل إنه من أوصاف شديد القوى المعلّم ، أو صاحبكم المتعلم؟.
ان شديد القوى ، ولو كان جبريلا ، لا يصح توصيفه مرة ثانية ودون فصل بمثل وصفه ، أو نازلا عن وصفه : «شديد القوى : ذو قوة» ولكنه هو الله ، لا يوصف بمحكم الفتل ، الموحي إلى رخوة المسبق ، ولا أن له فتلا ، ولا أنه يمر ولا أنه يستوي ، لا في ذاته ولا مكانته.