وكتاب عيسى لا يحملها ، وإنما يدعو إلى كتاب موسى دون زيادة إلا دعوات أخلاقية ، وتحليلات لبعض ما حرم ابتلاء في كتاب موسى (١) ، فلأن الإنجيل لا يحمل شريعة جديدة تنسخ شريعة التورات وإنما تكملها أخلاقيا ، اعتبره رسل الجن هنا استمرارا لشريعة موسى ، إذا فالقرآن كتاب أنزل من بعد موسى ، وهذا هو حق المعنى في انتقالهم إلى القرآن بعد كتاب موسى ، تلميحا مليحا أنه الشريعة المفصلة المستقلة بعد التورات (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) من الإنجيل والتورات (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) : الشرع الثابت الذي لا حول عنه ولا تحويل (وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) على طول الخط بيننا وبين القيامة الكبرى ، لا عوج فيه (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)!.
ولا يعني تصديق القرآن لما بين يديه ، تصديق الموجود من كتب الأنبياء ، المحرفة عن جهات إشراعها ، وإنما (بَيْنَ يَدَيْهِ) مما أوحي إليهم ، تصديقا لوحيها ، لا تثبيتا للعمل بها ، اللهم إلا الأحكام التي لم تنسخ منها.
وترى كيف عرفوا أن القرآن نزل ككتاب موسى؟ لأنهم آمنوا من قبل بكتاب موسى ، بالآيات الكبرى التي أتى بها موسى ، ثم قايسوا ما سمعوه من القرآن إلى كتاب موسى ، فأدركوا صلة عريقة بينهما في أصول الدعوة وجماع من فروعها ، وأنها من تلك النبعة التي نبع منها كتاب موسى ، بل وأحرى ، فإذا كان كتاب موسى وحيا وليس فيه آيات النبوة إلا قليلا ، فليكن القرآن وحيا وهو كله آيات للنبوة : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ..) قياس ناجح بين
__________________
(١). وكما يقول تعالى حكاية عن عيسى (ع): «وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ» وهو الذي حرّم عليهم ابتلاء لا أصلا يبقى : «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا».