ثم نقول : من فعل فعلا ، وكان عالما بإنشائه إياه في وقت مخصوص ، فلا بدّ أن يكون مؤثرا وقوعه في ذلك الوقت مع اقتداره عليه وعلمه به ، ووضح ذلك يداني مدارك الضرورات.
ثم العقل يقضي باستواء الإرادة الموقعة في وقت وغيرها من الحوادث. فبطل تعويلهم على أن الإرادة لا تراد ، ثم لا يغنيهم خبطهم في الإرادة ، وقد نقضت دليلهم ؛ فإن ما عولوا عليه من دلالة الاختصاص على الإرادة يبطل عليهم بالإرادة ، وكلامهم بعد ذلك تعليل للنقض ، فقد انسدّ عليهم طريق الاستدلال ، على كون الباري تعالى مريدا.
ومما يطالبون به ، أن يقال لهم : بم تنكرون على من يزعم أن الباري سبحانه وتعالى مريد لنفسه ، كما أن حيّ قادر عالم بنفسه عندكم؟
فإن قالوا : إنما يمتنع ذلك لأن الحكم الثابت للنفس إذا كان يقتضي تعلقا ، يجب أن يعم تعلقه جملة المتعلقات ، ولذلك وجب كونه عالما بكل معلوم ، لما كان عالما لنفسه ؛ إذ لا اختصاص للنفس ببعض المتعلقات دون بعض ، ومساق ذلك يوجب كونه مريدا لكل مراد لو كان مريدا لنفسه.
وهذا الذي ذكروه من تحكماتهم الباطلة. ويقال لهم : بأي دليل أنكرتم تعلق الحكم النفسي ببعض المتعلقات دون بعض؟ وبم تردون على من يقول من النجّارية : إنه مريد لبعض المرادات لنفسه ، وهذا بمثابة اختصاص العلم الحادث يتعلق بمتعلقه لعينه ؛ وليس لقائل أن يقول : لا اختصاص للعلم بالسواد ، وإضافته إلى السواد بمثابة إضافته إلى غيره.
فإن قالوا : قد استشهدنا بكونه عالما بكل معلوم ، قلنا : تحكمتم في الاستدلال وضرب الأمثال. فلم زعمتم أنه إنما يجب كون الباري تعالى عالما بكل معلوم من حيث كان عالما لنفسه؟ وقد علمتم أن مذهب خصومكم اعتقاد ثبوت الصفات ، والمصير إلى أن الباري تعالى عالم بعلم. ثم ما ذكروه تولوا نقضه حينما قالوا : الباري قادر لنفسه ، ولا يتصف بكونه قادرا على كل مقدور ، فإن مقدورات العباد غير مقدورات له. وقد أثبت المتأخرون منهم أجناسا مقدورة للعباد ، ومنعوا كونها مقدورة للرب تعالى ، سواء كانت مقدورة للعبد أم لم تخلق له القدرة عليها ، منها الجهل.
فإن قالوا : مقدورات العباد لم تتعلق بها قدرة القديم ، من حيث استحال مقدور بين قادرين ، والمستحيل لا يعد من قبيل المقدورات ؛ قلنا : لا ينجيكم روغانكم عما ألزمتموه ؛ فإن ما سيقدر عليه عبد في معلوم الله تعالى غير مقدور لله تعالى قبل أن يقدر عليه عبده عندكم ، وهو إذ ذاك غير مقدور للعبد. ولا يحتمل هذا المعتقد أكثر مما ذكرناه.
ومما نلزمهم أن نقول : إذا حكمتم بأن الباري تعالى يتجدد عليه أحكام الإرادة فيما لا يزال ، فما المانع من قيام موجباتها به؟ فإن قالوا : لو قامت به لم يخل عنها أو عن ضدها ثم ينساق ذلك إلى الدليل على حدثه ؛ قلنا : إنه جاز أن يتصف بأحكام الحوادث من غير أن كان متصفا بنقائضها قبل الاتصاف بها ، فما المانع من أن تقوم به الحوادث فيما لا يزال مع خلوه عن أضدادها قبلها؟ ثم أصلكم أن الحي يجوز أن يعري عن الإرادة وأضدادها ، وهذا مذهب الدهماء منهم.