أمرني بسطر (١) الأدلّة الدالّة على أنّ للعبد اختيارا في أفعاله ، وأنّه غير مجبور عليها ، قابلت ذلك الأمر المطاع بالامتثال والاتّباع ، وسارعت في إنشاء هذه الرّسالة الموسومة ب «استقصاء النّظر في البحث عن القضاء والقدر» المشتملة على حجج الفريقين وأدلّة الخصمين ، وأوضحت الحقّ منهما بالبرهان الواضح ، والدليل اللّائح ، قاصدا في ذلك تحقيق الحقّ ، وارتكاب نهج الصدق ، واستعمال الانصاف ، واجتناب البغي والاعتساف ، وطلب الحقّ أين (٢) كان ، والوصول إليه بقدر الإمكان ، والله الموفّق والمعين ، وقبل الخوض في الأدلّة نقرّر محلّ النّزاع ، فنقول :
(مذهب الجهميّة والأشاعرة في الأفعال)
ذهب جهم بن صفوان (٣) إلى أنّه لا فعل للعبد البتّة ، وأنّ الفاعل لجميع الأشياء هو الله تعالى لا غير ، ولا قدرة للعبد.
وذهب الأشاعرة والنجّاريّة إلى أنّ الله تعالى هو الموجد للأفعال بأجمعها لكنّ العبد مكتسب لأفعاله ، فأثبتوا للعبد قدرة غير مؤثّرة في الفعل بل الفعل صادر من الله تعالى ، وهذا في الحقيقة هو مذهب جهم بن صفوان لكن لمّا خاف (٤) أبو الحسن الأشعري (٥) أنّ الشّناعة تلزمه من إسقاط فائدة التكليف ، و
__________________
(١) في غير «ج» : سألني بنظر.
(٢) في «م» : كيف.
(٣) هو أبو محرز السّمرقندي رأس الجهميّة ، كان يقضي في عسكر الحارث بن سريج الخارج على أمراء خراسان ، فقبض عليه نصر بن سيّار وأمر بقتله ، فقتل في سنة ١٢٨ ه.
(٤) في «م» : رأى ، وفي غير «ج» : قال.
(٥) هو علي بن إسماعيل بن إسحاق الأشعرى ، قدوة الأشاعرة الّذين اشتهروا به ، كان معتزليّا ثمّ