حدسهم في جميع المطالب على الحقّ والصواب ، فإنّ النّفوس البشريّة تأخذ من النقصان في الترقّي إلى الكمال على التدريج مرتبة بعد اخرى ، فإذا بلغت أقصى مراتب الكمال الممكن لنوع البشر صارت نفسا قدسيّة ، المعبّر (١) عنها في القرآن العزيز بقوله تعالى : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) (٢).
المقدّمة السادسة
في انقسام أثر النّفس إلى الإدراك والتحريك
اعلم أنّ للنّفس الناطقة قوّتي إدراك وتحريك ، أمّا الإدراك فهو تحصيل الصور المعقولة في القوّة العاقلة ، وانتقاش النّفس بها بواسطة انتزاع القوّة العاقلة للامور الكلّيّة من الأشياء الجزئيّة المحسوسة ، أو المتخيّلة ، وذلك يستدعي التفات النّفس إلى جهة التعقّل ، وانصرافها عن الموادّ الجسمانية.
وأمّا التحريك ، فلأنّ النّفس لمّا طلبت الاستكمال في المعقولات بواسطة الإحساس المستند إلى الحواسّ الجسمانيّة الحاصلة في البدن ، وجب أن يكون للنّفس تعلّق تامّ شديد بالبدن ، واتّصال ما لها به ، والاعتناء بتدبيره ، وتحريك الآلات الجزئيّة في الامور النّافعة للبدن ، إمّا لجلب (٣) نفع ، أو دفع ضرر ، ولهذا وجب لكلّ ذي قوّة إدراك أن تكون له قوّة تحريك ، خصوصا والبدن مركّب من الامور المتضادّة المتداعية إلى الانفكاك ، فلو لا الحافظ لها عن الانفكاك لبطل المزاج ، فالواجب إثبات هاتين القوّتين للنّفوس البشريّة ، وإذا (٤) كان التفات النّفس إلى أحد الجانبين يشغلها عن الالتفات إلى الآخر لا جرم حصل التفاوت
__________________
(١) في «ش» و «ل» : يعبر.
(٢) سورة النور (٢٤) : ٣٥.
(٣) في الأصل : بجلب.
(٤) في «ش» و «ل» : لمّا.