وكان القول ببقاء النفس بعد موت (١) البدن باطلا ، لكان الإنسان أخس من جميع الحيوانات. فالدليل عليه : أن الإنسان إنما يتميز عن سائر الحيوانات بقوة العقل والعقل يوجب الشقاء في اللذات الجسمانية ، ويوجب السعادة في الكمالات العقلية ، المنتفع بها بعد الموت. والدليل عليه : أن العاقل يحمله عقله على التفكر في الماضي والحاضر والمستقبل.
أما التفكر في الماضي. فكل ما مضى من الأمور (٢) المكروهة. فإذا تذكره ، وقع في قبله حسرة شديدة ، بسبب حصولها في الماضي. وكل ما مضى من الأحوال الطيبة ، فإذا تذكره وقع في قلبه حسرة شديدة بسبب فوتها وزوالها.
وأما التفكر في الأحوال الحاضرة. فهذا إما أن يكون في خير أو شر. فإن كان في الخير ، فالعقل يوجب الغم من وجوه :
الأول : إنه يخاف زوالها فيحصل له ألم الخوف في الحال.
الثاني : إنه لا راحة إلا وفوقها مرتبة أخرى أعلى منها ، فإذا عرف العقل ذلك ، اشتاق إلى المرتبة القوية ، واستحقر المقدار الحاصل ، فيحصل الغم والألم.
الثالث : إن كل ما يحصل ، فإنه يزول الالتذاذ به ، وحصوله يقوي الرغبة في الأحوال المستقبلة. فهو يوجب الخوف الشديد ، والفزع التام. لأنه لا يعرف أنها تحصل على وفق المراد ، أو على خلاف المراد. مثبت بما ذكرناه : أن العقل يوجب حصول هذه الراحات الجسمانية ، منغصة مقرونة بالخوف والمكروه وألم القلب. وأما سائر الحيوانات ، فإنها لما كانت خالية عن العقل ، كان انتفاعها باللذات الجسدانية ، خاليا عن التنغيص الحاصل بسبب العقل ، فوجب أن يكون انتفاعها بهذه اللذات [الجسدانية (٣)] أكمل من انتفاع الناس بها.
__________________
(١) الموت باطلا (م).
(٢) المدركات (م).
(٣) سقط (ط).