إذا ثبت هذا ، فنقول : إن كون العقل موجبا للكمال والسعادة ، إنما يحصل بعد الموت. فإذا كان الغرض هو أن النفس لا تبقى البتة بعد موت البدن ، لم يحصل من العقل منفعة فيما بعد الموت ، وقد بينا أنه من أقوى الأسباب الموجبة لتنغيص هذه اللذات الجسدانية ولتكديرها ، وإبطال الانتفاع بها. وحينئذ يظهر [عن هذا (١)] أنه لو لم تكن النفس باقية بعد موت البدن (٢) لكان الإنسان أخس الحيوانات وأرذلها ، وأدناها قدرا وقيمة. فإن امتيازها عن غيرها ، ليس إلا بالعقل الذي لا فائدة فيه. إلا تنقيص [الخيرات (٣)] وتنغيص اللذات والطيبات. ولما شهدت بديهة العقل بأن هذا اللازم باطل ، وأن الإنسان أشرف الحيوانات وأعلاها قدرا وقيمة ، بسبب حصول هذا العقل له ، وظهر أن العقل سبب نقصان الخيرات الجسمانية العاجلة ، وجب القطع بأن كمال العقل [إنما حصل (٤)] وجلالته ورفعته ، إنما حصل بسبب أنه سبب لحصول الكمالات فيما بعد موت (٥) البدن. وهذا يدل على أن النفس غير البدن ، وعلى أنها باقية بعد موت البدن.
وأما بيان المقدمة الثالثة : وهي قولنا : لو لم تكن النفس باقية بعد موت البدن ، لكان خلق الإنسان عبثا. فالدليل عليه : أن هذا الإنسان إما أن يكون مخلوقا للخير والمصلحة والراحة ، أو يكون مخلوقا للضرر والبلاء ، أو لا يعتبر أحد هذين القسمين.
أما القسم الثاني ، فهو بعيد لما ثبت : أن الخير غالب ، والشر مغلوب.
وأما القسم الثالث ، فباطل لأن هذا المعنى ، كان حاصلا عند البقاء على العدم الأصلي. فلم يبق إلا أن الحق هو القسم الأول ، وهو أنه خلق للفوز بالجنة ، والراحة ، والحكمة ، والمصلحة. فنقول : محل الفوز بتلك
__________________
(١) من (م).
(٢) الجسد (م).
(٣) من (م).
(٤) من (ل ، طا).
(٥) الموت وهذا (م). ، (ل).