الحجة الثانية : وهي قريبة مما تقدم. إنا نرى جميع طوائف العالم ، وجميع الفرق متفقين على أنه إذا مات إنسان. فإن اعتقدوا فيه أنه كان حال الحياة ، موصوفا بالصفات المحمودة: ذكروه بالرحمة والتعظيم ، فتارة يقولون : صلوات الله عليه. وتارة يقولون : رحمة الله عليه. وإن اعتقدوا فيه أنه كان [حال الحياة (١)] موصوفا بالصفات المذمومة من الجهل والشرور والإيذاء : ذكروه باللعن والخزي والعذاب. ولو قدرنا أن الإنسان لم يبق حيا بعد موت البدن، لكان هذا الكلام عبثا باطلا ، فإن من لا يكون حيا ، استحال اتصال الرحمة والروح والراحة إليه ، واستحال أيضا إيصال الذم واللعن إليه. ولو كان الأمر كذلك ، لكان أهل المشرق والمغرب من الزمان الأقدم إلى هذا الزمان مطبقين على الفعل الباطل [والقول الفاسد ، وهذا بعيد. فإن إطباق الخلق العظيم على العلم الباطل (٢)] غير ممكن. فهذا يدل على أن فطر النفوس وبدائه العقول شاهدة بأن الإنسان شيء آخر غير هذا البدن ، وأنه يبقى بعد موته حيا ، فإن كان سعيدا كان أهلا للرحمة ، وإن كان شقيا كان أهلا للعنة.
الحجة الثالثة : إنه جرت عادة العقلاء بأنهم يذهبون إلى المزارات المتبركة ويصلون ويصومون عندها ، ويدعون الله في بعض المهمات ، فيجدون آثار النفع ظاهرة ، ونتائج القبول لائحة.
يحكى أن أصحاب «أرسطاطاليس» كانوا كلما صعبت عليهم مسألة ، ذهبوا إلى قبره ، وبحثوا فيها ، فكانت تنكشف لهم تلك المسألة ، وقد يتفق أمثال هذا كثيرا ، عند قبور الأكابر من العلماء والزهاد [في زماننا (٣)] ولو لا أن تلك النفوس باقية بعد موت الأبدان، وإلا لكانت تلك الاستعانة بالميت الخالي عن الحس والشعور [عبثا (٤)] وذلك باطل.
ومما يقوي هذا : هو أن الأحياء قد يصلون لأجل الأموات ، وقد يتصدقون لأجلهم. وقد يتفق كثيرا (٥) : أن الحي إذا نام عند قبر بعض
__________________
(١) سقط (ط).
(٢) سقط (م ، ط).
(٣) من (م).
(٤) من (م).
(٥) هذا الاستدلال لا يليق بعقل المؤلف.