فهذا تفصيل قول من يقول : الإنسان عبارة عن الجسم الموصوف بالمزاج المخصوص.
وأما الذين يقولون : الإنسان عبارة عن جوهر مجرد مغاير لهذا البدن. فالكل أطبقوا على أن النفس باقية بعد موت البدن [ولما بينا بالدليل : أن النفس جوهر مجرد ، كان قولنا : النفس باقية بعد موت البدن (١)] مفرعا على هذا الأصل [والله أعلم (٢).
واعلم : أن هذه المسألة لما كانت أهم المهمات ، لا جرم عزمنا على أن نذكر فيها كل ما يمكن ذكره. سواء كان من الوجوه البرهانية ، أو من الوجوه الإقناعية :
فالحجة الأولى على بقاء النفس بعد موت البدن : أن نقول : قد ثبت أن النفس الناطقة : جوهر ليس بجسم ولا في جسم البتة. ويمتنع أن يحصل بينه وبين الأجسام قرب أو بعد أو مناسبة. وليس بينها وبين هذا البدن ، إلا أن هذا البدن محل تصرف ذلك الجوهر في منزل عمله ودار مملكته. كما أن الرجل المعين يكون ساكنا في دار ومتصرفا فيها ، فإذا خرجت تلك الدار وخرجت عن الصلاح والسداد ، لم يلزم موت ذلك المتصرف وبطلانه. وهذا يجري مجرى العلوم الضرورية. والشك والشبهة إنما يتولد بسبب أن الوهم يسبق إلى أن ذلك الشيء حال في هذا البدن ، وساري فيه. فيسبق حينئذ إلى الوهم أنه يجب موتها بموت البدن.
وأما إن قدرنا جوهرا مجردا ليس بينه وبين هذا البدن مناسبة ، لا بالقرب ولا بالبعد ، ولا بوجه من وجوه المناسبة. إلا من وجه واحد ، وهو أن ذلك البدن كان دار مملكة ذلك الجوهر ومحل تصرفه ، ثم إنه خربت هذه الدار. فالعلم الضروري حاصل بأن هذا القدر لا يقتضي عدم ذلك الجوهر ، ولا يغير حالا من أحواله (٣) فهذا لبيان أنه لا يلزم من موت البدن موته.
__________________
(١) سقط (ل).
(٢) سقط (م) ، (ط).
(٣) أجزائه (طا).