وأيضا إن ملك أرضا بمقدار جريب فإذا أراد أن يسقيها ، فاللائق به أن يطلب شعبة صغيرة ، تنفصل من جدول صغير ، ويجريها إلى تلك الأريضة. فأما إن أراد إجراء [النهر العظيم الذي في (١)] الوادي إلى تلك الأريضة ، غرقت وفسدت. فكيف إذا قال : إني أجري إليها البحر الأعظم. فكذا هاهنا روح البشر ، تجري مجرى الأريضة الصغيرة. فإذا أراد سقيها ببحار أنوار جلال الله تعالى ، غرقت. بل الأولى أن يغلق فكره بروح من الأرواح الفلكية حتى يمكنه الانتفاع بها.
الحجة الثالثة : إنه لما كان المتولي لرعاية مصالح ذلك الطرف ، هو ذلك الروح المعين ، كان الإعراض عن طاعته ، إعراضا عن المنعم. فيستحق المقت والحرمان.
واعلم : أني لما سمعت هذه الوجوه من القوم قلت : إنها كلمات لا بأس بها في ظاهر الأمر ، إلا أن فيها عيبا عظيما ، وفحشا تاما. فقالوا لي : وما ذلك العيب؟ فقلت : إن وجود موجود واجب الوجود لذاته ، يدبر هذا العالم : معلوم. وأما إثبات هذه الأرواح ، وكونها مدبرة لهذا الطرف من الأرض فهو غير معلوم بل أمر مظنون غير متأكد بحجة قوية ، وبرهان تام. وإذا كان كذلك ، فالاشتغال بعبادة هذه الأرواح : إعراض عن المعبود الذي علم كونه معبودا ، وإقبال على عبادة شيء لم يعلم وجوده البتة. والعقل يقتضي الإعراض عن المجهول ، والإقبال على المعلوم. فأما ضده فهو على مضادة مقتضى العقل.
وهذا هو الدليل المذكور في القرآن ، في قوله تعالى : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ، لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ. فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ. إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) (٢) وتقريره : إن وجود الإله : معلوم لأنه لما دل الدليل على وجوب انتهاء الممكنات إلى موجود واجب الوجود لذاته فحينئذ حصل الجزم بوجوده. ولما فسد دليل من
__________________
(١) العبارة ملفقة من (م ، ل).
(٢) المؤمنون ١١٧.