قال : الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد. فحينئذ لا يمتنع كونه سبحانه مبدأ لجميع الممكنات. والعلم بأن هذا الموجود : إله واجب التعظيم : حاصل قطعا. أما سائر الأسباب ، فوجودها غير معلوم بالبرهان [وبتقدير كونها موجودة ، لكن لا يعلم كونها مؤثرة في هذا العالم بالبرهان (١)] وإذا ثبت هذا ، كان الاشتغال بعبادتها إعراضا عن المعلوم ، وإقبالا على ما لم يثبت وجوده بالبرهان [فهذا معنى قوله تعالى : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) (٢)]. ثم قال : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) أي من جحد المعلوم ، وأثبت غير المعلوم : لم يفلح البتة. ثم قال بعده : (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ. وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) وهذا فيه لطيفة عجيبة : لأن المقصود بالعبادات (٣) : إما دفع المؤذي ، وإما الفوز بالراحة. ودفع المؤذي أهم من الوصول إلى الراحة ، فيكون مقدما عليه في الرتبة. ودفع المؤذي هو المغفرة والفوز بالراحة هو الرحمة. فلهذا قال : (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ) فقدم طلب المغفرة والفوز بالراحة ، على طلب الرحمة. ثم قال : (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ).
وفيه دقيقة أخرى : وهي أن هذه الأرواح الفلكية بتقدير كونها قادرة على دفع البلاء ، وإيصال الآلاء والنعماء. إلا أن قدرة المبدأ الأول عليه : أكمل وأفضل. لأنها محتاجة إلى واجب الوجود [لذاته (٤)] في ذواتها ، وفي صفاتها والمحتاج إليه أكمل وأفضل وأعلى وأقوى من المحتاج. وبتقدير ثبوت هذه الأرواح وتقدير كونها مدبرة لهذا العالم ، إلا أن الرجوع إلى واجب الوجود في طلب هذه الأشياء ، أولى من الرجوع إلى تلك الأرواح. لأنه فوق الكل في الكمال والرحمة والفضل والجود والكرم. ولهذا ختم الكلام بقوله : (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ).
__________________
(١) سقط (م) ، (ط).
(٢) من (طا ، ل).
(٣) بالذات (م).
(٤) من (م).