ولكن فيه افتضاحهم وهتك أستارهم فإنه عفا عنه. الثالث أن عقد الذمة اقتضى تقريرهم على ما بدلوا وغيروا من دينهم ، إلا ما كان في إظهاره معجزة له وتصديق لنبوته من نعته وصفته ، أو ما اختلفوا فيه فيما بينهم وتحاكموا إليه فيه كحكم الزّنى ونحوه.
فإن قيل : لم قال تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ) مع أن العبد ما لم يهده أولا لا يتبع رضوانه فيلزم الدور؟
قلنا : فيه إضمار تقديره : يهدي به الله من علم أنه يريد أن يتبع رضوانه ، كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [العنكبوت / ٦٩] أي والذين أرادوا سبيل المجاهدة فينا لنهدينهم سبل مجاهدتنا.
فإن قيل : لم نر ولم نسمع (١) أن قوما من اليهود والنصارى قالوا نحن أبناء الله ، فكيف أخبر الله تعالى عنهم بذلك؟
قلنا : المراد بقولهم أبناء الله خاصة الله ، كما يقال أبناء الدنيا وأبناء الآخرة. وقيل فيه إضمار تقديره : أبناء أنبياء الله.
فإن قيل : كيف يصح الاحتجاج عليهم بقوله تعالى (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ) [الآية ١٨] مع أنهم ينكرون تعذيبهم بذنوبهم ، ويدعون أن ما يذنبون بالنهار يغفر بالليل وما يذنبون بالليل يغفر بالنهار.
قلنا : هم كانوا مقرين أنه يعذبهم أربعين يوما وهي مدة عبادتهم العجل في غيبة موسى عليهالسلام لميقات ربه ، ولذلك قالوا : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [البقرة / ٨٠]. وقيل أراد به العذاب الذي أوقعه ببعضهم في الدنيا من مسخهم قردة كما فعل بأصحاب السبت ، وخسف الأرض كما فعل بقارون ، وهذا لا ينكرونه ، وعلى هذا الوجه يكون المضارع بمعنى الماضي في قوله (فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ) والإضافة إليهم بمعنى الإضافة إلى آبائهم ، كأنه قال : فلم عذّب آباءكم.
فإن قيل : قوله تعالى : (بَلْ أَنْتُمْ
__________________
(١). قوله (لم نر ولم نسمع إلخ ...) لا يخفي ما في إيراد السؤال على هذا الوجه ، مما ينبو عن ساحة الأدب في عظمة التنزيل.