ومن هنا ينقدح أنّ فيها إشارة إلى دفع الشبهة المختلجة في صدورهم الجارية على ألسنتهم من أنّ الأبدان بعد ما تفتّتت وتفرّقت أجزاؤها وتمزّقت كلّ ممزّق واتّصلت أجزاؤها البسيطة بما يشاكلها في مراكزها وعادت إلى ما منه بدأت عود ممازجة لا عود مجاورة ، فكيف يجمع أجزاء كلّ بدن مرّة ثانية بحيث لا يشذ منها شيء ولا ينضمّ إليها غيرها ، فأجاب بأنّه سهل يسير لمن له القدرة الكليّة والإحاطة العلميّة كما في قوله : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (١) ، وقوله : (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (٢) وذلك بعد ما أشار في الآية السّابقة إلى أنّ مواد الأبدان قابلة للجمع والتفريق والحياة بعد الموت ، وأنّ القادر على انشائها أوّل مرّة قادر على احيائها في الآخرة ، فصحّ دلالة الآيتين على صحّة الحشر.
وقد ظهر ممّا مرّ وجه التعبير بصيغة الفعيل دون الفاعل ، ولذا قال سيبويه (٣) : إذا أرادوا المبالغة عدلوا إلى فعيل نحو عليم وحكيم ، وقد سكّن نافع (٤) من طريق قالون (٥) ، وأبو عمرو (٦) ، والكسائي (٧) الهاء في نحو (فهو) و (وهو) تشبيها له بعضد ،
__________________
(١) يس : ٧٩.
(٢) لقمان : ١٦.
(٣) هو عمرو بن عثمان الفارسي البيضاوي الفارسي النحوي المتوفى (١٨٠) ه.
(٤) نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم أبو رويم المدني المتوفى (١٦٩) أحد القرّاء السبعة.
(٥) هو عيسى بن مينا بن وردان الملقب بقالون قارئ المدينة توفي سنة (٢٢٠) ه
(٦) هو زبان بن العلاء بن عمار ابو عمرو البصري المتوفى (١٥٤) أحد القراء السبعة.
(٧) هو ابو الحسن علي بن حمزة الكوفي المقرئ النحوي (المتوفى (١٧٩) أحد القراء السبعة.