يَوْماً وَقَدْ أَحْدَقَ بِهِ النَّاسُ أُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا مَنْزِلُ قُلْعَةٍ وَلَيْسَتْ بِدَارِ نُجْعَةٍ (١) هَانَتْ عَلَى رَبِّهَا فَخَلَطَ شَرَّهَا بِخَيْرِهَا وَحُلْوَهَا بِمُرِّهَا لَمْ يَصْفُهَا لِأَوْلِيَائِهِ وَلَمْ يَضَنَّ بِهَا (٢) عَلَى أَعْدَائِهِ وَهِيَ دَارُ مَمَرٍّ لَا دَارُ مُسْتَقَرٍّ وَالنَّاسُ فِيهَا رَجُلَانِ رَجُلٌ بَاعَ نَفْسَهُ فَأَوْبَقَهَا وَرَجُلٌ ابْتَاعَ نَفْسَهُ فَأَعْتَقَهَا إِنِ اعْذَوْذَبَ (٣) مِنْهَا جَانِبٌ فَحَلَا أَمَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ فَأَوْبَى (٤) أَوَّلُهَا عَنَاءٌ وَآخِرُهَا فَنَاءٌ مَنِ اسْتَغْنَى فِيهَا فُتِنَ وَمَنِ افْتَقَرَ فِيهَا حُزِنَ وَمَنْ سَاعَاهَا فَاتَتْهُ وَمَنْ قَعَدَ عَنْهَا أَتَتْهُ وَمَنْ أَبْصَرَهَا بَصَّرَتْهُ وَمَنْ أَبْصَرَ إِلَيْهَا أَعْمَتْهُ فَالْإِنْسَانُ فِيهَا غَرَضُ الْمَنَايَا مَعَ كُلِّ جُرْعَةٍ شَرَقٌ وَمَعَ كُلِّ أُكْلَةٍ غَصَصٌ لَا يُنَالُ مِنْهَا نِعْمَةٌ إِلَّا بِفِرَاقِ أُخْرَى.
وكلامه علیهما السلام في الدنيا وصفتها والتنبيه على أحوالها ومعرفتها وكثرة خدعها ومكرها وتنوع إفسادها وغرها وإيلامها بنيها وضرها كثير جدا وهو موجود في تضاعيف الكتب وفي نهج البلاغة فيستغنى بما هناك عن ذكرها هنا لئلا
________________
(١) قال ابن أبي الحديد : قوله عليه السلام «فإنها منزل قلعة» بضم القاف وسكون اللام اي ليست بمستوطنة ، ويقال : هذا مجلس قلعة إذا كان صاحبه يحتاج إلى أن يقوم مرة بعد مرة ويقال هم على قلعة اي على رحلة ، ومن هذا الباب قولهم فلان قلعة إذا كان ينقلع عن سرجه ولا يثبت في البطش والصراع. والقلعة أيضا : المال العارية.
والنجعة : طلب الكلاء في موضعه ، وفلان ينتجع الكلا والمنتجع : المنزل في طلب الكلاء ومنه انتجعت فلانا إذا اتيته تطلب معروفه.
(٢) ضن بالشيء : بخل به.
(٣) اعذوذب اي صار عذبا.
(٤) امر الشيء : صار مرا. وأوبى اي صار وبيا ولين الهمز لأجل السجع وفي تهج البلاغة هكذا : «ان جانب منها اعذوذب واحلولى ، امر منها جانب فأوبى».
(٥) الشرق : دخول الماء في الحلق حتّى يغص به والشرق بالماء والريق ونحوهما كالغصص بالطعام.