يخرج من غرض الكتاب ولما علمه من حال الدنيا رفضها وتركها وترفع عنها وفركها وعاملها معاملة من لم يدركها حين أدركها وخاف على نفسه التورط في مهاويها فما انتهجها ولا سلكها وخشي أن تملكه بزخارفها فلم يحفل بها لما ملكها واحترز من آلامها وآثامها وخلص من أمراضها وأسقامها وعرفها تعريف خبير بحدها ورسمها وأنزلها على حكمه ولم ينزل على حكمها (١) فصار زهده مسألة إجماع لا شك فيه ولا إنكار وورعه مما اشتهر في النواحي والأقطار وعبادته ونزاهته مما أطبق عليه علماء الأمصار وهو الذي فرق بيت المال على مستحقيه وَقَالَ :
هَذَا جَنَايَ وَخِيَارُهُ فِيهِ |
|
إِذْ كُلُّ جَانٍ يَدُهُ إِلَى فِيهِ (٢) |
وكان يرشه ويصلي فيه رجاء أن يشهد له يوم القيامة قَالَ هَارُونُ بْنُ عَنْتَرَةَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ دَخَلْتُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ علیهما السلام بِالْخَوَرْنَقِ (٣) وَهُوَ يَرْعُدُ تَحْتَ سَمَلِ قَطِيفَةٍ فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ لَكَ وَلِأَهْلِ بَيْتِكَ فِي هَذَا الْمَالِ مَا يَعُمُّ وَأَنْتَ تَصْنَعُ بِنَفْسِكَ مَا تَصْنَعُ فَقَالَ وَاللهِ مَا أَرْزَأُكُمْ (٤) مِنْ أَمْوَالِكُمْ شَيْئاً وَإِنَّ هَذِهِ لَقَطِيفَتِيَ الَّتِي خَرَجْتُ بِهَا مِنْ مَنْزِلِي [مَنْزِلِنَا] مِنَ الْمَدِينَةِ مَا عِنْدِي غَيْرُهَا.
السمل الخلق من الثياب يقال ثوب أسمال كما قالوا رمح أقصاد والقطيفة ما له خمل.
وَمِنْ هَذَا أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ عُمَارَةَ الْهَمْدَانِيَّةَ دَخَلَتْ عَلَى مُعَاوِيَةَ بَعْدَ مَوْتِ عَلِيٍّ فَجَعَلَ يُؤَنِّبُهَا عَلَى تَحْرِيضِهَا عَلَيْهِ أَيَّامَ صِفِّينَ وَآلَ أَمْرُهُ إِلَى أَنْ قَالَ مَا حَاجَتُكِ قَالَتْ إِنَّ اللهَ مُسَائِلُكَ عَنْ أَمْرِنَا وَمَا افْتَرَضَ عَلَيْكَ مِنْ حَقِّنَا وَلَا يَزَالُ يَقْدَمُ عَلَيْنَا مِنْ قِبَلِكَ مَنْ يَسْمُو بِمَكَانِكَ وَيَبْطِشُ بِقُوَّةِ سُلْطَانِكَ فَيَحْصِدُنَا حَصِيدَ السُّنْبُلِ وَ
________________
(١) يعني جعل عليه السلام الدنيا محكوما لحكمه ولم يجعل نفسه محكوما لحكمها
(٢) مر معناه آنفا فراجع.
(٣) موضع بالكوفة.
(٤) رزأه ماله : نقصه.