ولذا يصح صدور الحكم من الحاكم على تقدير كونها حجة مستقلة أيضا وفصلها شأن الحاكم ليس الا.
ودعوى أن حجية البينة في ثبوت الحق مرجعها الى كونها بمنزلة العلم بالحق ، فكما أن العالم إذا عمل بمقتضى علمه وعمل مع ذلك الحق معاملة حق المدعي ، لم يكن ذلك منافيا لما ثبت من اختصاص القضاء بالحاكم ، إذ لا يقال له انه فاصل للخصومة ، بل عامل بمقتضى ما علمه من ثبوت ذلك الحق ، كذلك من قامت عنده البينة إذا رتب عليها الاثار لم يكن فاصلا للخصومة.
مدفوعة بأن المراد بالفصل ليس هو الحكم المصطلح حتى يقال ان العمل بمقتضى العلم أو البينة ليس فصلا لها ، بل المراد ما عرفت من مجرد تطبيق العمل على وفق حقيقة المدعي ولو سرا من غير التعرض للمدعي عليه ظاهرا. ولا ريب أنه مداخلة بين الخصمين من حيث ثبوت الحق وعدمه ونحو فصل عملي للخصومة.
فإن قلت : ينبغي حينئذ أن لا يجوز للعالم أيضا العمل بمقتضى ما علمه من ثبوت الحق للمدعي نظرا الى اختصاص جميع أنحاء الفصل بالحاكم.
قلنا : اعتبار العلم في ترتيب آثار المعلوم عقلي لا يقبل التخصيص ، بخلاف اعتبار البينة ، فإنه لما كان ثابتا من الشرع أمكن تخصيصها بغير الحقوق نظرا الى ما استفيد من أدلة القضاء من اختصاص الفصل بالقضاة.
ومن هنا يعلم أن ترتيب سائر آثار ما قامت عليه البينة غير جهة كونه حقا للمدعي مما يرجع الى تكاليف المرتب نفسه لا مانع منه ، فلو قامت البينة مثلا على نجاسة المبيع قبل حكم الحاكم بها وجب على من سمعها الاجتناب عنه وعن ملاقيه ، فان ترتيب هذا الأثر غير مرتبط بمسألة الفصل فيجوز ، وانما المرتبط به ترتيب أثرها من حيث فساد البيع وكون ثمنها ملكا للمشتري وجواز أخذه من البائع سرقة مثلا ودفعه الى المشتري.