وأمّا المعنى الثالث : أعني اتّفاق جماعة يكشف اتّفاقهم عن رأي المعصوم فنقول : إنّ الظاهر أنّ التعبير بجماعة منكرة في هذا المعنى إنّما هو لتعميمه بالقياس إلى اتّفاق الكلّ واتّفاق ما دون الكلّ ، ومن المعلوم أنّ الاطّلاع على اتّفاق الجماعة بالمعنى الأعمّ المدّعى كونه كاشفا عن رأي المعصوم إنّما يحصل بتتبّع فتاويهم ، والمسألة المفتى بها في كلام العلماء على وجه الاتفاق إمّا أن تكون ضروريّة أو تكون نظريّة ، والأوّل خارج عن معقد البحث في حجّيّة الإجماع وحجّيّة نقله ، لأنّ المسألة الضروريّة في الشرعيّات لا تكون إلاّ في ضروري الدين أو المذهب.
وأيّا مّا كان فالضرورة المفروضة مع المسألة الإجماعيّة تغني عن النظر في الإجماع وترفع الحاجة إلى إثبات حجّيّته أو اثبات حجّيّة منقوله.
وعلى الثاني : فمحلّ البحث منها ما كانت المسألة نظريّة توقيفيّة صرفة من غير أن يكون للعقل مجال لإدراك حكمها ، وإلاّ كان حكم العقل فيها مستقلاّ أو تبعا لخطاب الشرع مغنيا عن النظر في الإجماع ومنقوله ، ورافعا للحاجة عن إثبات حجّيّتهما ، فبعد ما كان محلّ البحث اتّفاق الجماعة في مسألة نظريّة توقيفيّة صرفة يتطرّق المنع إلى كونه كاشفا عن رأي المعصوم ، لأنّ طريقه على ما ذكروه الحدس وهو غير ممكن غالبا ، على معنى عدم حصول العلم للناظر في اتّفاق الجماعة ، ولو في ضمن الكلّ بمطابقة الحكم المتّفّق عليه للحكم الواقعي الّذي هو رأي الإمام ومعتقده في غالب موارده.
فإنّا نقطع بأنّ لهم في المسألة الإجماعيّة الّتي حصل الإجماع فيها من تطابق الفتاوى على حكم واحد مستندا ، ونقطع أيضا بأنّ الغالب في المسائل النظريّة التوقيفيّة ـ الّتي منها المسائل الإجماعيّة ـ كون مستندها الأدلّة الغير العلميّة تعبديّة وظنّيّة ، كما يرشد إليه ما فرض من الانسداد الأغلبي في الأحكام ، فهم أو أكثرهم غير جازمين بما أفتوا به من الحكم المجمع عليه ، حتّى أنّه لو سئل كلّ واحد منهم أنّك هل تقطع بمطابقة ما أفتيت به الواقع؟ أجاب : « بأنّي لا أقطع بل أظنّ أو احتمل مخالفة الواقع. نعم إنّما أقطع بكونه الحكم الظاهري الّذي يجب التديّن به ». ومن المستحيل أن يحصل لغيرهم من اتّفاقهم على الفتوى الغير العلميّة ـ مع ملاحظة احتمال كلّ واحد منهم فيها مخالفة الواقع ـ الحدس والكشف العلمي على معنى العلم بمطابقتها الواقع ، وإن بلغوا في الكثرة إلى ما بلغوا ، حتّى أنّ الألف منهم أو أزيد إذا اتّفقوا عن ظنّ على حكم لا يفيد اتّفاقهم لغيرهم المطّلع على ظنّيّة فتواهم العلم بمطابقة الواقع.