بالمضارّ الدنيويّة ، فلا يجري في المضارّ الاخرويّة كالعقاب.
وفيه : أنّا لا نجد فرقا في حكم العقل بين الضررين ، فإنّ مناطه التضرّر وموضوعه الاحتراز عمّا يتضرّر به الإنسان ، وهذا لا يتفاوت في وجوبه الحال بين الضررين ، مع أنّ المضارّ الاخرويّة أشدّ وأعظم ، فحكم العقل بوجوب دفعها أولى وأظهر ، فلا معنى للفرق بينها وبين المضارّ الدنيويّة إلاّ أن يكون مبناه على أنّ الضرر الدنيوي تابع لأصل الفعل ، لأنّه يترتّب عليه من باب الخاصيّة بلا مدخليّة للعلم والجهل في ترتّبه عليه ، فلا يكون الجهل فيه عذرا رافعا له مانعا عن ترتّبه ، بخلاف الضرر الاخروي كالمؤاخذة والعقاب وانحطاط الدرجة وغيرها ، فإنّها لا تترتّب على أصل الفعل ، بل على العلم بالتكليف الإلزامي المتوقّف على نصب الشارع لطريق علمي عليه ، أو ما يقوم مقام العلم به من الظنون الخاصّة ، فيتوقّف على نصّ الشارع بقيام أمر غير علمي مقام العلم ، وإذا انتفى الأمران فالعقل يحكم بكون المكلّف مأمونا من العقاب المترتّب على العلم أو ما يقوم مقامه ، ومعناه كون الجهل حينئذ عذرا رافعا للضرر ، فيرجع حينئذ إلى ما سنقرّره من الجواب التحقيقي.
الثالث : النقض بالأمارات الظنّيّة الّتي نصّ الشارع أو قام القاطع بعدم اعتبارها ومنع العمل بها كخبر الفاسق والقياس على مذهب الإماميّة (١) ، فإنّ مخالفة ما ظنّه المجتهد من جهة القياس واجبا مظنّة للضرر ، والتخصيص في الدليل العقلي غير صحيح ، وإنكار حصول الظنّ من القياس أو خبر الفاسق مكابرة للوجدان.
وردّ تارة : بالتزام العمل بهذا الظنّ أيضا ، ومنع حرمته عند انسداد باب العلم ، كما يستفاد ذلك من بعض الأعلام في مواضع من قوانينه (٢).
واخرى : بأنّ الشارع إذا ألغى ظنّا تبيّن أنّ في العمل به ضرر أعظم من ضرر ترك العمل به ، وحاصله : أنّ دفع الضرر إنّما يجب عند العقل حيث لم يزاحمه ضرر آخر أقوى منه ، والقياس بملاحظة منع الشارع من العمل به يعلم فيه أنّ في العمل به مفسدة هي في نظر الشارع أعظم من المفسدة المترتّبة على تركه ، بل مفسدة العمل مفسدة متيقّنة ، ومفسدة الترك مفسدة غير متيقّنة ، ومن المعلوم في حكم العقل تعيّن دفعه.
__________________
(١) هذا النقض مذكور في الذريعة ٢ : ٥٥٠ والغنية : ٤٧٦ ومعارج الاصول : ٤٣.
(٢) قوانين الاصول ١ : ٤٤٨.