المجتهد ، والقاضي في تحصيل موازين القضاء ، فإنّها ظنون منضبطة يغلب فيها المطابقة ، كاشتهار الرجل بالاجتهاد بين العلماء والمجتهدين ، وجلوسه في مجلس القضاء والإفتاء بحيث يرجع إليه الناس في الترافع وأخذ الفتوى ، بل ظنون القاضي في تحصيل موازين القضاء هي من سنخ ظنون المجتهد ، لكونها من جملة الظنون الاجتهاديّة المنضبطة ، بخلاف ظنّه بالحقّ الواقعي ، وظنّ المقلّد بالحكم الواقعي ، فإنّهما من الظنون الغير المنضبطة الحاصلة من الأمارات الجزئيّة ، والأسباب الغير المنضبطة الّتي يغلب فيها عدم المطابقة هذا.
وقد يدفع التنظير في الجملة بإمكان أن يقال : إنّ مسألة عمل القاضي بالظنّ في الطريق مغائرة لمسألتنا من جهة أنّ الشارع لم يلاحظ الواقع في نصب طرق القضاء وأعرض عنه ، وجعل مدار قطع الخصومة على الطرق التعبّديّة مثل الإقرار والبيّنة واليمين والنكول والقرعة وشبهها ، بخلاف الطرق المنصوبة للمجتهد على الأحكام الواقعيّة ، فإنّ الظاهر أنّ مبناها على الكشف الغالبي عن الواقع ، ووجه تخصيصها من بين سائر الأمارات كونها أغلب مطابقة وكون غيرها غير غالب المطابقة ، بل غالب المخالفة للواقع ، كما ينبئ عنه ما ورد في منع العمل بالعقول في دين الله : « وأنّه ليس شيء أبعد عن دين الله من عقول الرجال ، وأنّ ما يفسده أكثر ممّا يصلحه وإنّ الدين يمحق بالقياس ونحو ذلك » (١).
ولا ريب أنّ المقصود من نصب الطريق إذا كان غلبة الوصول إلى الواقع لخصوصيّة فيها من بين سائر الأمارات ، ثمّ انسدّ باب العلم بذلك الطريق المنصوب ، وحصل الالتجاء إلى إعمال سائر الأمارات الّتي لم يعتبرها [ الشارع ] في نفس الحكم لوجود الأوفق منها بالواقع ، فلا فرق بين إعمال هذه الأمارات في تعيين ذلك الطريق وبين إعمالها في نفس الحكم الواقعي. بل الظاهر أنّ إعمالها في نفس الواقع أولى لإحراز المصلحة الأوّليّة الّتي هي أحقّ بالمراعاة من مصلحة نصب الطريق ، فإنّ غاية ما في نصب الطريق من المصلحة ما به يتدارك المفسدة المترتّبة على مخالفة الواقع اللازمة من العمل بذلك الطريق ، لا إدراك المصلحة الواقعيّة ، ولهذا اتّفق العقل والنقل على ترجيح الاحتياط على تحصيل الواقع بالطريق المنصوب في غير العبادات ممّا لا يعتبر فيه نيّة الوجه اتّفاقا ، بل الحقّ ذلك فيها أيضا ، كما مرّت الإشارة إليه في إبطال وجوب الاحتياط.
فإن قلت : كيف تنكر الفرق بين الظنّ في الطريق والظنّ في نفس الواقع ، مع أنّ الظنّ في
__________________
(١) الوسائل ٢٧ : ١٩٢ / ٤١ ، ب ١٢ من أبواب صفات القاضي.