وإن شئت فاستوضح ذلك من حكم العقل بحرمة العمل بالظنّ ، وطرح الاحتمال الموهوم عند انفتاح باب العلم في المسألة ، كما تقدّم في تقرير أصالة حرمة العمل بالظنّ ، فإذا فرض قيام الدليل من الشارع على اعتبار ظنّ ووجوب العمل به ، فإنّ هذا لا يكون تخصيصا في حكم العقل بحرمة العمل بالظنّ مع التمكّن من العلم ، لأنّ حرمة العمل بالظنّ مع التمكّن إنّما هو لقبح الاكتفاء بما دون الامتثال العلمي مع التمكّن من العلمي ، فإذا فرض الدليل على اعتبار ظنّ ووجوب العمل به صار الامتثال في العمل بمؤدّاه علميّا فلا يشمله حكم العقل بقبح الاكتفاء بما دون الامتثال العلمي ، وما نحن فيه على العكس من ذلك » (١) انتهى.
ومحصله : أنّ العقل إنّما يحكم بوجوب العمل بالظنّ لكونه براءة ظنّيّة ، والعمل بالقياس ليس براءة ظنّية ليشمله حكم العقل ، لمكان القطع بعدم البراءة الحاصل من منع الشارع الّذي هو مع الظنّ بالبراءة متنافيان.
وفيه : أنّ إنكار الظنّ بالبراءة بالعمل بالقياس مع الاعتراف بحصول الظنّ بالحكم الواقعي متنافيان يستحيل اجتماعهما ، لكون المراد بالبراءة هو الموافقة لحكم الله وجوبا كان أو حرمة أو استحبابا أو كراهة أو إباحة ، والظنّ بموافقة الحكم في العمل بالظنّ به لازم عقلي للظنّ به ، كما أنّ العلم بموافقته في العمل بالعلم به لازم عقلي للعلم به ، فالبراءة الظنّية كالبراءة العلميّة ليست بأمر جعلي ، حتّى يتبع منع الشارع من العمل بالعلم أو الظنّ وعدمه ، فإمّا أن يقال : بعدم حصول ظنّ بالحكم من القياس ، أو يقبل كون العمل به براءة ظنّيّة بمعنى الموافقة الظنّيّة ، والتفكيك بينهما بإثبات الأوّل ونفي الثاني تناقض.
وقد يجاب أيضا بما محصّله : أنّ حال الظنّ عند الانسداد كحال العلم عند الانفتاح ، وكما يقبح النهي عن العمل بالعلم على وجه الطريقيّة مع التمكّن منه لأنّه مفوّت للواقع وهو نقض للغرض ، فكذلك يقبح النهي عن العمل ببعض الظنون على وجه الطريقيّة مع عدم التمكن من العلم ، لأنّه مفوّت للواقع وهو نقض للغرض ، ومبناه على تسليم عدم لزوم التخصيص والتناقض بالبيان المذكور ، وقد عرفت لزومه أيضا.
ومنها : « أنّ النهي يكشف عن وجود مفسدة غالبة على المصلحة الواقعيّة المدركة على تقدير العمل به ، فالنهي عن الظنون الخاصّة في مقابل حكم العقل بوجوب العمل بالظنّ مع الانسداد ، نظير الأمر بالظنون الخاصّة في مقابل حكم العقل بحرمة العمل بالظنّ مع الانفتاح.
__________________
(١) فرائد الاصول ١ : ٥٢٥ ـ ٥٢٦.