فإن قلت : إذا بني على ذلك فكلّ ظنّ من الظنون يحتمل أن يكون في العمل به مفسدة كذلك.
قلت : نعم ، ولكن احتمال المفسدة لا يقدح في حكم العقل بوجوب سلوك طريق يظنّ معه بالبراءة عند الانسداد ، كما أنّ احتمال وجود المصلحة المتداركة لمصلحة الواقع في ظنّ لا يقدح في حكم العقل بحرمة العمل بالظنّ عند الانفتاح ، وقد تقدّم في آخر مقدّمات الانسداد أنّ العقل مستقلّ بوجوب البراءة الظنّيّة مع عدم العلم ، ولا اعتبار باحتمال كون شيء آخر هو المتعبّد به غير الظنّ ، إذ لا يحصل من العمل بذلك المحتمل سوى الشكّ في البراءة أو توهّمها ، ولا يجوز العدول عن البراءة الظنّيّة اليهما » (١).
ومحصّله : أنّ العقل بملاحظة انسداد باب العلم يحكم بوجوب العمل بكلّ ظنّ ، من حيث إنّ فيه إدراكا لمصلحة الواقع ، أو المصلحة المتداركة لمصلحة الواقع ، وهذا لا ينافيه النهي عن القياس من حيث وجود مفسدة فيه غالبة على مصلحة الواقع ، فلا تخصيص لعدم وحدة الموضوع الّتي هي من شروط التناقض ، نظير حكم العقل بحسن كلّ صدق من حيث كونه صدقا ، الّذي لا ينافيه حكمه بقبح الصدق الضارّ من حيث كونه ضارّا ، من جهة تعدّد الموضوع باعتبار قيدي الحيثيّة ، وعلى عكسه قبح كلّ كذب وحسن الكذب النافع ، ويشكل : بأنّ الحيثيّة إذا كانت تعليليّة كما فيما نحن فيه ، فلا يجدي تعدّدها في تعدّد الموضوع.
والأولى أن يوجّه عدم التنافي : بأنّ العقل إنّما يحكم بوجوب العمل بكلّ ظنّ إدراكا لمصلحة الواقع ، أو ما يتدارك به تلك المصلحة ما لم يكن فيه مفسدة غالبة على مصلحة الواقع ، وإلاّ فيحرّم العمل فلا تنافي ، لكون علّة وجوب العمل مقيّدا بالخلوّ عن المفسدة الغالبة ، والنهي كاشف عن وجود المفسدة الغالبة ، فلا يكون مورده مشمولا لحكم العقل ، لانتفاء علّته باعتبار انتفاء قيدها.
هذا ولكنّ الشيخ الاستاد طاب ثراه زيّفه بعد ما كان يستحسنه في سابق الزمان بقوله : « إنّ ظاهر أكثر الأخبار الناهية عن القياس أنّه لا مفسدة فيه إلاّ الوقوع في خلاف الواقع ، وإن كان بعضها ساكتا عن ذلك ، وبعضها ظاهرا في ثبوت المفسدة الذاتيّة ، إلاّ أنّ دلالة الأكثر أظهر ، فهي الحاكمة على غيرها كما يظهر لمن راجع الجميع ، فالنهي راجع إلى سلوكه من باب الطريقيّة ، وقد عرفت الإشكال في النهي على هذا الوجه.
__________________
(١) فرائد الاصول ١ : ٥٢٨.