إلاّ أن يقال : إنّ النواهي اللفظيّة عن العمل بالقياس من حيث الطريقيّة لابدّ من حملها في مقابل العقل المستقلّ على صورة انفتاح باب العلم بالرجوع إلى الأئمّة عليهمالسلام ، والأدلّة القطعيّة منها كالإجماع المنعقد على حرمة العمل به حتّى مع الانسداد لا وجه له غير المفسدة الذاتيّة ، كما أنّه إذا قام دليل على حجّيّة الظنّ مع التمكّن من العلم نحمله على وجود المصلحة المتداركة لمخالفة الواقع ، لأنّ حمله على العمل من حيث الطريقيّة مخالف لحكم العقل بقبح الاكتفاء بغير العلم مع تيسّره (١).
أقول : ويمكن الذبّ عن الإشكال الّذي أشار إليه بقوله : « وقد عرفت الإشكال في النهي عنه على هذا الوجه » ـ ، وهو لزوم تفويت الواقع الموجب لنقض الغرض من النهي عن العمل بالظنّ على وجه الطريقيّة مع الانسداد : بأنّه قد يجوز عند العقل الفرق والتفصيل بين الظنّ الغالب مطابقته الواقع ، والظنّ الغالب عدم مطابقته الواقع ، بايجاب العمل بالأوّل مراعاة لغلبة مطابقته ، والنهي عن العمل بالثاني لغلبة عدم مطابقته ، ولا قبح فيه ، ولا يستفاد من الأخبار الناهية عن القياس أزيد من غلبة عدم المطابقة فيه ، بل هذا صريح ما تقدّم من قوله عليهالسلام : « كان ما يفسده أكثر ممّا يصلحه ».
نعم هذا لا يجدي مع انحصار الطريق في المسألة الفرعيّة في الظنّ القياسي.
ثمّ لا يخفى عليك أنّ ما استشكله إنّما هو إشكال في جواز النهي على الوجه المذكور ، لا أنّه إلزام على بقاء إشكال التخصيص في حكم العقل على حاله ، فإنّه مندفع على كلّ حال ، فتأمّل.
ومنها : ما اعتمد عليه شيخنا قدسسره من « أنّ خصوصيّة القياس من بين سائر الأمارات هي غلبة مخالفته للواقع ، كما يشهد به قوله عليهالسلام : « إنّ السنّة إذا قيست محق الدين » (٢) ، وقوله : « كان ما يفسده أكثر ممّا يصلحه (٣) » ، وقوله : « ليس شيء أبعد من عقول الرجال عن دين الله (٤) » ، وغير ذلك وهذا المعنى خفي على العقل الحاكم بوجوب سلوك الطرق الظنّيّة عند فقد العلم ، فهو إنّما يحكم بها لإدراك أكثر الواقعيّات المجهولة بها ، فإذا كشف الشارع عن حال القياس وتبيّن عند العقل حاله ، فيحكم حكما إجماليّا بعدم جواز الركون إليه.
__________________
(١) فرائد الاصول : ١ : ٥٢٩.
(٢) الوسائل ٢٧ : ٤١ / ١٠ ، ب ٦ من أبواب صفات القاضي.
(٣) الوسائل ٢٧ : ٢٥ / ١٣ ، ب ٤ من أبواب صفات القاضي.
(٤) الوسائل ٢٧ : ٢٠٣ / ٦٩ و ٧٣ ، ب ١٣ من أبواب صفات القاضي.