وباطنة ، جسميّة وروحانيّة ممّا لا يحصى كثرة ، ولا شكّ ولا ريب أنّها من غيره ، فهذا العاقل إن لم يلتفت إلى منعمه ولم يعترف له بإحسان ولم يذعن بكونه منعما ولم يتقرّب إلى مرضاته يذمّه العقلاء ويستحسنون سلب تلك النعم عنه ، وهذا معنى الوجوب العقلي.
وأيضا إذا رأى العاقل نفسه مستغرقة بالنعم العظام يجوّز أنّ المنعم لها قد أراد الشكر عليها ، وإن لم يشكره يسلبها عنه ، فيحصل له خوف العقوبة ، ولا أقلّ من سلب تلك النعم ، ورفع الخوف عن النفس واجب مع القدرة وهو قادر على ذلك فلو تركه كان مستحقّا للذمّ ، وإذا ثبت وجوب شكر المنعم ووجوب إزالة الخوف عن النفس فهو لا يتمّ إلاّ بمعرفة المنعم حتّى يشكره على حسب مرتبته ، وعلى ما يستحقّه ويمكن المناقشة في إناطة حكم العقل بالوجوب بخوف زوال النعم لو لا الشكر حتّى ينتج وجوب المعرفة ، بأنّ أعظم النعماء وأصلها نعمة الحياة ، والعاقل يقطع بأنّها زائلة بالموت لا محالة شكر أم لم يشكر ، مع القطع بعدم كون المدار فيما عداها على المعرفة ولا الشكر ليزول بعدمهما وإلاّ وجب زوالها عن الكفّار على اختلاف أصنافهم ، وعن أهل المعاصي المحرز كونهم كذلك بعدم قيامهم بشكر منعمهم ، ولا ريب أنّ الالتفات إلى ذلك ربّما يأمنه من خوف زوال النعم بما عدا الموت.
والأولى لإثبات وجوبه بطريق العقل أن يقال : إنّ شكر المنعم من حيث إنّه شكر المنعم ـ على ما يدرك بالوجدان السليم ـ ممّا يحسّنه العقل ويقبّح تركه ، كما أنّه يحسّن ردّ الوديعة ويقبّح تركه ، والمنكر مكابر.
فلو قيل : إنّ الحسن بهذا الاعتبار وإن كان مسلّما إلاّ أنّه لا يصلح ملزما للعبد بالشكر إلاّ إذا استلزم إيجابا ، فإن كان من المنعم فهو موقوف على معرفته وبدونها لا إيجاب ، وإن كان من غيره فمع أنّه لا يجدي نفعا في الإلزام يبطله دليل الخلف.
لقلنا : مع أنّ الموقوف على المعرفة إنّما هو العلم بالإيجاب لا نفس الإيجاب إن اريد به الواقعي لا الظاهري ، ولعلّ احتمال الإيجاب من المنعم في نظره على وجه أوجب خوف العقوبة على المخالفة ولو في دار الآخرة الّتي يكفي فيها الاحتمال الناشئ عن إخبار مخبر كاف في قيامه والتزامه بالشكر ، أنّ العاقل المجانب للعناد إذا تفطّن بحكم عقله بالحسن فلا يجوّز بإرشاد عقله لنفسه الإقدام على القبيح لئلاّ يتوجّه إليه ذمّ العقلاء ، بل لئلاّ يستحقّ ذمّهم كما هو شيمة المعتدلين في ارتكاب المحاسن واجتناب القبائح ولو مع قطع النظر عن