ولو سلّم الظهور فلعدم صلاحيتها لمقاومة العقل المستقلّ لا بدّ من تأويلها بتخصيص أو تعميم ، فقد يحمل على ما لا يستقلّ به العقل ، وقد يجعل الرسول أعمّ من الظاهر والباطن.
ومع الغضّ عن جميع ذلك فهو لا يدفع مقالة من يعترف بالحكم العقلي وينكر الملازمة بينه وبين الحكم الشرعي ، كما عليه بعض أصحابنا تبعا للزركشي.
إلاّ أن يقال : إنّ مبنى الاستدلال على ما أطبق عليه الفريقان من ثبوت الملازمة على تقدير ثبوت الملزوم ، والخلاف إنّما هو في إثبات الملزوم ونفيه ، وإذا جاز للخصم الاكتفاء في إثبات الملازمة بإثبات الملزوم اعتمادا على الاتّفاق المذكور جاز لنا الاكتفاء في نفي الملزوم بنفي اللازم تعويلا على الاتّفاق المذكور ، الّذي مرجعه إلى الإجماع المركّب ، فيلزم أن يكون القول بإثبات الملزوم ونفي الملازمة خرقا لهذا الإجماع فلا يلتفت إليه.
وكيف كان فينبغي التكلّم في الدليل الأوّل.
فنقول : إنّ لهم في إثبات صغرى هذا الدليل ـ على ما عزى إليهم ـ طريقين :
أحدهما : أنّه تعالى علم بأفعال العباد قبل وقوعها ، فيمتنع وقوع خلاف ما علم منهم ، وإلاّ لا نقلب علمه جهلا وهو محال.
وعن الفخر الرازي في أربعينه تحرير ذلك بما محصّله : « أنّه كما أنّ بين وقوع كلّ من الفعل والترك من الفاعل في وقت واحد ووقوع الآخر منه منافاة ذاتيّة لامتناع الجمع بينهما ، كذلك بين العلم بأحدهما ووقوع الآخر منافاة ذاتيّة ، إذ المطابقة للواقع معتبرة في ذات العلم ، فإذا فرض علمه تعالى بأحدهما تحقّق المنافي الذاتي لوقوع الآخر فيمتنع القدرة عليه ، إذ لا يتمّ القدرة على الشيء مع تحقّق المنافي الّذي لا سبيل إلى رفعه » (١).
وفيه : أنّ علمه تعالى ـ كما حقّق في محلّه ـ ليس علّة للمعلوم ، بل هو في أصل تعلّقه وكيفيّته تابع له ، فإن كان ما سيقع من الفاعل في وقته باختياره هو الفعل تعلّق به العلم كذلك ، وحينئذ فإذا جاء الوقت واختار الفاعل الفعل على حسب ما تعلّق به العلم كان الواقع في الخارج هو الفعل الاختياري الّذي كونه سيختاره الفاعل أوجب تعلّق العلم به لا غير ، وبعد وقوعه بالاختيار امتنع وقوع الترك معه ، لا لخروجه عن الاختيار بالذات ، بل لعدم تعلّق قدرة المختار به باعتبار الوصف وهو اجتماعه مع ما ينافيه ، فإنّ كلاّ من الفعل والترك قبل اختيار أحدهما اختياريّ على معنى كون الفاعل القادر على كلّ منهما بالذات
__________________
(١) حكاه عنه في الفصول : ٣٢٢.