بحيث إن شاء اختار الفعل وإن شاء اختار الترك ، وإذا اختار أحدهما لم يخرج الآخر عن كونه اختياريّا بالذات ، بل يمتنع وقوعه لعدم كون وصف الاجتماع بينهما مقدورا ، وإذا كان علمه تعالى تابعا لاختياره لم يعقل كونه مؤثّرا في عدم اختياريّته.
وبالتأمّل فيما قرّرناه يظهر أنّ دعوى المنافاة الذاتيّة بين العلم بأحدهما ووقوع الآخر وهم ، إذ لا منافاة بالذات إلاّ بين وقوع المعلوم ووقوع الآخر.
نعم لمّا كان العلم باعتبار ما أخذ فيه من المطابقة للواقع تعلّق بما سيقع في الخارج بالاختيار صحّ إسناد المنافاة إليه ، ووقوع الآخر على سبيل العرض والمجاز من باب وصف الشيء بحال متعلّقه ، وبذلك علم أنّ امتناع القدرة على الآخر ليس لمنافاة العلم إيّاه بالذات بل لفرض وقوع متعلّق العلم الّذي هو المنافي له بالذات ، كما علم أيضا أنّ انقلاب علمه تعالى جهلا على تقدير وقوع خلاف المعلوم ليس من آثار اختياريّته بل من آثار فعليّة وقوعه ، فاستحالته إنّما تنفي فعليّة وقوعه لا اختياريّته ، لا بمعنى كون العلم مانعا من وقوع خلاف المعلوم ومقتضيا لعدمه ، فإنّ معنى العلم بالشيء انكشاف الواقع للعالم لا التأثير في وقوعه أو عدم وقوع خلافه بل باعتبار استحالة تعلّقه بغير الواقع.
قال بعض الفضلاء : « إنّ المستحيل هناك أمران :
الأوّل : وقوع غير ما يقع من الفاعل المختار ، ومرجع هذه الاستحالة إلى وجوب الصدور منه من جهة تحقّق علّته التامّة الّتي من جملتها الاختيار والقدرة ، وهذا هو الوجوب بالاختيار الّذي لا ينافي الاختيار بل يحقّقه.
الثاني : تخلّف علم العالم عمّا علمه ، ومرجع هذه الاستحالة إلى استحالة علمه تعالى بغير الواقع لا إلى سببيّته للواقع واستدعائه له » (١).
وأمّا ما توهّم من أنّ القدرة على خلاف ما علمه تعالى قدرة على قلب علمه تعالى جهلا وهو محال.
فيدفعه ما ذكره الفاضل المذكور من : « أنّا نلتزم بأنّ لا قدرة على قلب علمه تعالى جهلا ، لكن نمنع منافاة ذلك القدرة على خلاف المعلوم.
وتوضيحه : أنّه تعالى لمّا كان عالما بالأشياء على ما هي عليه في الواقع فلا بدّ أن يكون علمه بالفعل الاختياري على وجهه ، من وقوعه من الفاعل على وجه الاختيار ،
__________________
(١) الفصول : ٣٢٧.