الوجود والعدم مزيّة على الآخر ، وإنّما يكون كذلك إذا اشتمل على نفع أو غرض عقلائي أو فاعلي. و « الترجيح » عبارة عن اختيار الفاعل أحدهما. ومعنى كونه بلا مرجّح خلوّه عن المزيّة باعتبار عدم اشتماله على نفع وغرض عقلائي ولا فاعلي ، ولا إشكال في استحالته حتّى عند الأشاعرة ، ولا ينافيه ما اختلفت فيه الأشاعرة والمعتزلة في مسألة أنّ الإرادة بمجرّدها تصلح مرجّحة لأحد طرفي الفعل والترك على معنى كونها داعية إلى اختياره وإن لم يكن فيه مزيّة على الآخر ، فاختارت الأشاعرة جوازه ، إذا الإرادة يراد بها القصد إلى أحد الطرفين على معنى الجزم بإيقاعه ، فلو فرض حصولها من غير مزيّة فلا ينبغي التأمّل في كفايتها في الاختيار ، وإنّما الكلام في صحّة الفرض وهو موضع منع ، وهذا هو معنى ما ذكرناه من أنّ وجود المرجّح إنّما يعتبر في الترجيح لمدخليّته في تحقّق مقدّمة وجود الفعل الاختياري.
فالوجه أن يدفع الشبهة تارة بالنقض واخرى بالحلّ.
أمّا الأوّل : فبالنقض بأفعاله تعالى حرفا بحرف ، مع اتّفاق الملّيين على اختياره تعالى فيها كما هو معنى كونه فاعلا مختارا لا فاعلا موجبا ، فأقصى ما في التعلّق بشبهة الجبر عدم اتّصاف أفعال العباد بالحسن والقبح عند العقل فيلزم خروج هذه القاعدة عن كونها مدركا للأحكام الشرعيّة الفرعيّة ، والغرض الأصلي من تدوين هذا الباب وتمهيد هذه القاعدة إنّما هو تعرّف الأحكام الراجعة إلى أفعاله تعالى فالشبهة المذكورة بعد تمامها لا تستلزم عدم حكم العقل ، بل غاية ما فيها عدم جريانه في هذا النصف من الأفعال.
ومن هنا ربّما يتوجّه إليهم سؤال آخر وهو أنّ التعلّق بشبهة الجبر هاهنا خروج ما عن معقد البحث ، إذ الكلام في أنّ العقل هل يدرك في أفعال العباد حسنا وقبحا أو لا؟
والشبهة المذكورة إنّما تقضي بعدم صلوحها للاتّصاف بهما لا بعدم إدراك العقل لهما فيها على تقدير صلوحها للاتّصاف بهما ، وحينئذ فيجوز دعوى إدراكه لهما على طريقة القضيّة الشرطيّة ، بأن يقال : إنّ أفعال العباد على تقدير كونها اختياريّة فالعقل يدرك حسنها وقبحها ، ولا يقدح في صدق هذه الدعوى كونها اضطراريّة ، لما تقرّر من أنّ كذب الشرط لا يستلزم كذب الشرطيّة ولا ينافي صدقها.
وأمّا الثاني : فالأوجه في طريقه أن يقال : إنّ صدور الأفعال من العباد لابدّ وأن يكون لمرجّح ، ولكن لا يلزم في المرجّح أن يكون من قبله تعالى أو من قبل العباد ، بل قد يكون