ففيه : أنّا لا نعقل ممّا يترتّب على ما يستقلّ فيه العقل إلاّ المحبوبيّة والمبغوضيّة الّتي يترتّب عليها الثواب والعقاب من حيث الإطاعة والمخالفة ، فإن كان ما هو من لوازم الوجوب والحرمة الشرعيّين هو هذا فهو المطلوب ، وإلاّ نمنع اعتباره فيهما لما ذكرناه مرارا من كفاية مجرّد المحبوبيّة والمبغوضيّة النفسانيّتين في انعقاد الحكم الشرعي وترتّب جميع آثاره ولوازمه ، وإنّ الزائد عليهما من الجعل أو الطلب فعلا فلا يعتبر إلاّ لأجل الكشف عنه والدلالة عليه.
وثالثها : قوله عليهالسلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي » (١) دلّت الرواية على إناطة الحرمة الشرعيّة في كلّ شيء ببلوغ النهي عنه إلى المكلّف ، فلا حرمة ما لم يبلغ النهي ، وهو عامّ يشمل المستقلاّت العقليّة أيضا ، فلو أنّ بين القبح العقلي والتحريم الشرعي ملازمة واقعيّة لم يصحّ إناطة حرمته ببلوغ النهي.
والجواب : أنّ الإطلاق بحسب العرف واللغة عبارة عن رفع قيد الشيء وإزالته ، يقال : أطلقت الأسير ، أي رفعت قيد أسره ، ومنه ما في الدعاء : « اللهمّ أطلق لساني بذكرك » (٢) أي ارفع قيده الّذي حبسه عن ذكرك ، ومنه الطلاق الّذي يقال في الشرع على إزالة قيد النكاح ، وقد يطلق على حالة منتزعة عن الشيء باعتبار عدم ورود القيد به ، ومنه « ناقة طلق » أي ما ليس بها قيد ، والمطلق في وصف الماء أي ما لا حاجة في ذكره إلى قيد ، والمطلق لنوع من اللفظ ، ومنه قوله عليهالسلام : « مطلق » في الرواية (٣) نظرا إلى أنّ التكليف في الفعل المكلّف به الّذي منه الحرمة نحو قيد يؤخذ معه ، وليس المراد من الرواية ما ينطبق على المعنى الأوّل وهو رفع قيد الحرمة ، ليكون المعنى : كون كلّ شيء مرفوع الحرمة حتّى يرد فيه نهي ، بل المراد كونه بحيث لا يرد عليه قيد الحرمة حتّى يرد فيه نهي.
وحينئذ فقضيّة الرواية إمّا خبريّة يراد بها الإخبار عن كلّ شيء بكونه بحيث ليس فيه قيد الحرمة إلى أن يرد فيه نهي من باب بيان الواقع.
ففيه : منع شمول عمومها لمستقلاّت العقل ، إمّا لأنّ مفاد الرواية حينئذ كون الأشياء قبل بلوغ النهي فيها إلى المكلّف بمنزلة أفعال البهائم في خلوّها عن الحكم ، ولو باعتبار خلوّها عن الجهات المقتضية للحكم.
ولا ريب أنّ حكم العقل في مستقلاّته بالحسن أو القبح الموجبين للمحبوبيّة والمبغوضيّة
__________________
(١ و ٣) الفقيه ١ : ٣١٧ ح ٩٣٧.
(٢) الكافي ١ : ٧٠ ، الأمالي للصدوق : ٦٤٩.