والجواب أوّلا : إنّ كلام أصحابنا والمعتزلة هنا إثبات للملازمة بين حكم العقل والحكم الشرعي بأحد وجوهه المتقدّمة ، على ما أومأنا إليه أيضا بقاعدة اللطف ، ومحصّله : أنّ الإيجاب والتحريم من الشارع على طبق الوجوب والحرمة العقليّين ليكون كلّ واجب عقلي واجبا شرعيّا وكلّ حرام عقلي حراما شرعيّا لطف ، ولا يلزم فيهما كونهما بخطاب لفظي بعد قيام ما يغني عنه من حكم العقل مع انضمام مقدّمة اخرى ، فهذا دليل لنا لا علينا.
وثانيا : أنّ ذلك بعد أخذ اللطف بمعناه المعروف ـ وهو ما يقرّب العبد إلى الطاعة ويبعّده عن المعصية ـ على مختارنا أدلّ ، وذلك لأنّ صدق هذا المفهوم وتحقّقه في الخارج يستدعي إحراز طاعة ليكون التكليف السمعي مقرّبا إليها وإحراز معصية ليكون مبعّدا عنها ، ولا طاعة ولا معصية فيما يستقلّ به العقل إلاّ ما يحرز بحكم العقل قبل النظر في خطاب الشرع ، وهذا مبنيّ على ثبوت الملازمة بينه وبين الحكم الشرعي الّذي موافقتها إطاعة ومخالفته معصية ، ويكفي في ذلك ـ على ما مرّ مرارا ـ مجرّد المحبوبيّة والمبغوضيّة ، فيكون الإيجاب والتحريم السمعيّان حينئذ مقرّبا إلى الإطاعة اللازمة من موافقة المحبوبيّة والمبغوضيّة ، ومبعّدا عن المعصية اللازمة من مخالفتهما.
وبالجملة : فلو لا الملازمة المذكورة فيما يستقلّ به العقل لم يكن هناك إطاعة ولا معصية ، فلا يصدق على التكليف السمعي فيه كونه مقرّبا إلى الطاعة ومبعّدا عن المعصية.
وممّا يفصح عن صحّة ما قلناه ما عن جمهور العدليّة من الإماميّة والمعتزلة في تفسير الوجه ـ بعد تعريفه بالسبب الباعث على إيجاب الواجب وندب المندوب ـ بأنّه اللطف في الواجبات والمندوبات العقليّة ، ومعناه على ما ذكره جماعة منهم المحقّق الثاني في جامع المقاصد (١) أنّ السمعيّات ألطاف في العقليّات قبالا لمن جعله مجرّد الأمر كالأشاعرة ، ولمن جعله الشكر على معنى أنّ الفعل إنّما يجب لكونه شكرا للمنعم كالكعبي ، ولمن جعله ترك المفسدة اللازمة من الترك كبعض المعتزلة ، فإنّ الوجوب العقلي ـ على ما مرّ ـ هو كون الفعل بحيث يستحقّ فاعله المدح وتاركه الذمّ ، والندب كونه بحيث يستحقّ فاعله المدح ولا يستحقّ تاركه الذمّ ، وهذا قد يكون بحيث يستقلّ العقل بإدراكه كما في مستقلاّته ، وقد يكون بحيث لا يدركه إلاّ بواسطة خطاب الشرع الوارد لإيجاب الواجب وندب المندوب ، على معنى إنشاء الوجوب والندب الشرعيّين كما في غير مستقلاّته.
__________________
(١) جامع المقاصد ١ : ٢٠٢.