ولا ريب أنّ الإيجاب والندب الشرعيّين لا يكون لطفا في الواجبات والمندوبات العقليّة إلاّ إذا تضمّن الوجوب العقلي بالمعنى المذكور طاعة ومعصية ، والندب العقلي طاعة ، ولا يكون كذلك إلاّ إذا استلزم الأوّل محبوبيّة الفعل ومبغوضيّة الترك ، والثاني محبوبيّة الفعل فقط لله تعالى ليكون موافقة الأوّل والثاني طاعة ومخالفة الأوّل معصية ، أو إذا استلزاما الجعل الواقعي أو الطلب الفعلي أيضا ليترتّب على موافقة أحدهما أو مخالفته الطاعة والمعصية ، وحينئذ يصدق على إيجابه تعالى أنّه لطف بمعنى المقرّب إلى الطاعة والمبعّد عن المعصية اللازمتين من مجرّد المحبوبيّة والمبغوضيّة النفسانيّتين ، أو من المجعول الواقعي أو من الطلب الفعلي ، ولكن لا يعتبر فيه كونه بالخطاب اللفظي إلاّ فيما لا يستقلّ العقل بإدراك الوجوب العقلي ، فلا يجب في مستقلاّته ورود خطاب من الشرع بوجوب الواجب وندب المندوب ، وإن كان ذلك أيضا لطفا.
ودعوى قبح العقاب بدون اللطف على إطلاقها غير مسلّمة ، بل المسلّم قبحه بدونه فيما لا طريق للمكلّف إلى إدراك الوجوب العقلي إلاّ خطاب الشرع ، وليس كذلك الحال فيما يستقلّ فيه العقل ، لفرض استقلاله بإدراك الحسن والقبح المرادفين للوجوب والحرمة العقليّين.
وبالجملة الخطاب اللفظي الّذي مفاده التكليف السمعي فيما يستقلّ العقل بإدراك حسنه أو قبحه لطف مندوب ، وليس شرطا في صحّة العقاب ليقبح بدونه ، وليس مراد جمهور العدليّة من كون الإيجاب والندب لطفا في الواجبات والمندوبات العقلية أنّه لابدّ وأن يكون بخطاب اللفظ حتّى في المستقلاّت ، لأنّ غاية ما ذكروه كون الإيجاب والندب بالمعنى المتضمّن للطلب الفعلي لطفا ، وهذا أعمّ من أن يكون مدلولا عليه بالعقل أو بخطاب الشرع.
والسرّ في ذلك : أنّ الخطاب اللفظي ليس من مقوّمات ماهيّة الإيجاب والندب ولا من لوازم ماهيّة الطلب ، بل هو من عوارض الشخص ، بل قد عرفت مرارا أنّه لا يعتبر في صدق الطاعة والمعصية حصول الطلب الفعلي ولا الجعل الواقعي ، بل يكفي فيهما مجرّد المحبوبيّة والمبغوضيّة النفسانيّتين.
وإن شئت صدق هذه المقالة فراجع نفسك في معاملتك مع عبدك الّذي اشتريته ، فقد تجعل له حكما كوجوب التجارة وحرمة قتل ولدك ، ثمّ أبرزته له بالطلب الفعلي بقولك : « يا عبدي أوجبت عليك التجارة ، أو أتجر لي ، وحرّمت عليك قتل ولدي ، أو لا تقتل ولدي » وقد تجعل له ذلك الحكم ولكن لم تبرزه له ، أو أبرزته ولم يصل إليه خطابك بعدم بلوغ