انقسامه إلى الأحكام الخمسة هو ما أحاط العقل بجميع جهاته من الأشياء ، فأدرك في بعضها حسنا ملزما فيكون واجبا ، وفي بعضها حسنا غير ملزم فيكون مندوبا ، وفي بعضها قبحا ملزما فيكون محرّما ، وفي بعضها قبحا غير ملزم فيكون مكروها ، وفي بعضها خلوّه عن جميع الجهات المحسّنة والجهات المقبّحة فيكون مباحا ، وما اختلفوا في إباحته وحظره ما لم يدرك فيها حسنا ولا قبحا لعدم إحاطته بجميع جهاته ، على معنى جهله بجهاته الواقعيّة مع اشتماله على منفعة خالية عن أمارة المضرّة.
فالاختلاف في إباحة نحو ذلك لا ينافي الاتّفاق على حكم العقل بإباحة نحو ما تقدّم.
نعم غاية ما هنالك القدح في تحقّق ما أدرك العقل خلوّه عن جميع الجهات من الأشياء في الخارج.
وهذا على تقدير صحّته قدح في الصغرى ولا يوجب كذب الكبرى ، لأنّ الحكم بإباحة ما ذكر إنّما هو على تقدير تحقّقه في الخارج.
وهاهنا إشكال مشهور ـ تقدّم الإشارة إليه وإلى دفعه في تعريف الدليل العقلي ـ متوجّه إلى أهل القول بالإباحة والحظر ، فإنّ القول بحكم العقل بأحدهما يناقض فرض كون هذه الأشياء ممّا لا يستقلّ فيه العقل.
ويندفع أوّلا : منع كونها ممّا لا يستقلّ فيه العقل ، وإخراجها عن عنوان ما يستقلّ فيه أمر حدث من المتأخّرين ، وإلاّ فهي بحسب أصل تدوين مسألة التحسين والتقبيح العقليّين وعند أوائل العدليّة كانت من أفراد ما يستقلّ فيه العقل ، المتنازع في استقلال العقل فيها بإدراك الحسن والقبح ، أو بإدراك الحكم الشرعي بدون ملاحظة خطاب الشرع ، ولذا يسمّى البحث فيها على رأي الأشاعرة بمسألة « التنزّل ».
وثانيا : أنّ معنى ما يستقلّ فيه العقل عند العدليّة ما يستقلّ فيه عند جميع العدليّة ، وكون هذه الأشياء ممّا لا يستقلّ فيه العقل معناه عدم استقلال العقل فيه عند كلّ العدليّة ، وهذا لا ينافي كونها ما يستقلّ فيه العقل عند بعضهم ، والمفروض أنّ القائل بأنّ العقل يحكم فيها بالإباحة أو الحظر بعض العدليّة لا كلّهم.
وثالثا : أنّ ما يستقلّ فيه العقل معناه استقلال العقل بإدراك حسنه أو قبحه بالمعنى المأخوذ فيه استحقاق المدح والذمّ ، وعدم استقلال العقل في هذه الأشياء بإدراك الحسن والقبح بهذا المعنى لا ينافي استقلاله بإدراك الحسن والقبح بمعنى آخر ، وقد تقدّم أنّ من