المخالف واردا في نفس ذلك الموضوع ـ كما لو ورد في أخبار الآحاد ما يدلّ على أنّ كلّ منفعة خالية عن أمارة المفسدة محظور ـ جاء التعارض بينه وبين أصل الإباحة الّذي هو حكم عقلي بالإباحة ، مع عدم صلاحية أصل البراءة لمعارضة هذا الدليل أيضا ، فتأمّل.
وقد يذكر فرق آخر بين الأصلين ، وهو أنّ أصل الإباحة يرجع إلى إثبات حكم شرعي للمنافع وأصل البراءة إلى نفي التكليف أو آثاره كالعقوبة وغيرها ، وأمّا إثبات حكم آخر من الاستحباب أو الإباحة أو الكراهة فلا بدّ فيه من دليل آخر فتأمّل.
وفرق آخر أيضا ، وهو أنّ النظر في هذا الأصل إلى حال العقل من حيث إنّه يحكم بالإباحة أو بالحظر مع قطع النظر عن العمل وفي مسألة أصل البراءة إلى حال العمل من حيث إنّه يبنى فيه على البراءة أو الاحتياط من غير نظر إلى العقل ، بمعنى كون العقل في البحث الآتي مسكوتا عنه ، كما أنّ العمل في هذا البحث مسكوت عنه.
وبالجملة : لمّا كان مسألة الحظر والإباحة من تتمّة مسألة التحسين والتقبيح العقليّين ، فالبحث فيها إنّما هو في حال العقل من حيث إنّه يحكم أو لا يحكم؟ وعلى تقدير الحكم فهل يحكم بالإباحة أو الحظر؟ بخلاف المسألة الآتية الّتي موضوعها عمل المكلّف من حيث إنّه مجهول الحكم ، من غير نظر فيها إلى حال العقل من حيث إنّه يحكم أو لا يحكم.
وفرق آخر أيضا ، وهو اختصاص هذا الأصل بالشبهات التحريميّة بخلاف الأصل الآتي لاختصاصه بالشبهات الوجوبيّة ـ كما هو ظاهر مادّة البراءة ـ أو لعمومه لهما.
وفيه : منع الاختصاص في الأصل الآتي ، وعلى تقدير العموم فالبحث الآتي ممّا يغني عن البحث في هذا الأصل ، لدخول الأخصّ في الأعمّ ومعه لا جهة لتعدّد العنوانين ، مع أنّ هذا إنّما يلائم على تقدير كون مفاد الأصلين هو الحكم الظاهري ، وقد عرفت منعه على القول بالإباحة هاهنا ، فتأمّل.
ومن الفضلاء (١) من فرّق بينهما بأنّ أصل الإباحة أخصّ بحسب المورد ، لجريان أصل البراءة فيما يحتمل الإباحة وفيما لا يحتمله ، سواء كان عدم احتماله لها في نفسه كما في العبادة أو لقيام دليل على نفيها بالخصوص كما في الدخول في سوم المؤمن ، بخلاف أصل الإباحة فإنّه لا يجري إلاّ حيث يحتمل الإباحة ، وهذا أيضا ضعيف يظهر وجهه بملاحظة ما مرّ.
ثمّ قد عرفت من تضاعيف ما تقدّم أنّ نزاعهم هاهنا ليس في المستقلاّت الّتي يدرك
__________________
(١) الفصول : ٣٠١.