العقل حسنها أو قبحها ولا في غيرها مطلقا ، بل فيما كان منها مشتملا على المنفعة وخاليا عن أمارة المفسدة وقد يعبّر عنها بالمضرّة.
والسرّ في اعتبار القيدين أنّه لو لا اشتمال الشيء على المنفعة كمضغ الخشب وتحريك اليد ونحوهما كان ارتكابه لغوا ، واللغو عبث والعبث قبيح عقلا ، فيكون محرّما أو مكروها على حسب مرتبة قبحه ، ولا معنى معه للنزاع في إباحته ، كما أنّه كذلك لو لا خلوّه عن أمارة المفسدة ، لأنّ أمارة المفسدة إن اريد بها الدليل الكاشف عن وجود مفسدة واقعيّة فالمتّبع هو هذا الدليل ، وإن اريد بها ما يوجب ظنّ المضرّة فيدخل في عنوان دفع الضرر المظنون الواجب عقلا ، فيكون تركه بإتيان الفعل قبيحا.
وربّما سبق إلى بعض الأوهام عموم النزاع لما لا منفعة فيه أيضا ، نظرا إلى عموم أدلّتهم الّتي منها التصرّف في مال الغير وعموم بعض العناوين ، فإنّ الحاجبي في مختصره عقد البحث في أفعال العقلاء وأطلق حيث قال : « الثاني في مسألة التنزّل أنّه لا حكم لأفعال العقلاء ، عندنا » (١) والعلاّمة في النهاية (٢) فرض البحث في الأفعال الّتي لا يدرك العقل حسنها وقبحها قبل ورود الشرع ، وفي الجميع ما لا يخفى ، خصوصا كلام الحاجبي لأنّه على ضدّ المطلوب أدلّ ، لأنّ أفعال العقلاء لا تكون إلاّ مع المنفعة.
ثمّ الموجود في كلامهم أيضا تقييد العنوان بما قبل ورود الشرع ، وكأنّه عبارة اخرى لاعتبار الخلوّ عن أمارة المفسدة ، بناء على كون المراد منها الدليل الكاشف عن وجود مفسدة واقعيّة في المورد ، لكنّ الظاهر أنّ المراد به اعتبار ما يكون لحاظ حكم العقل ، فهو من قيود موضوع المسألة لا من أجزاء موضوع حكم العقل ، وعليه فهو محتمل لوجوه : بأن يراد منه ما قبل سنخ الشرع حتّى شرع أبينا آدم عليهالسلام : أو ما قبل شرع نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم كزمان الفترة ، أو قبل صدور الخطاب من الشارع في هذه الأشياء ، أو قبل وصول الخطاب الصادر منه إلينا ، أو ملاحظة هذه الأشياء مع قطع النظر عن خطابه على تقدير صدوره منه ووصوله إلينا ، وظاهر الأدلّة يساعد على الوجه الثالث أو ما يعمّه والوجه الرابع أيضا ، فهو الأصحّ وأردأ الوجوه الأوّل والثاني كما هو واضح.
وإذا تمهّد جميع ما ذكر فاعلم أنّه احتجّ المبيحون بوجوه غير تامّة :
منها : ما عن السيّد المرتضى رحمهالله من أنّ المنافع الخالية عن المضرّة ليس فيها مفسدة
__________________
(١) شرح المختصر : ٧٧ ـ ٧٨.
(٢) نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة ١٤ ( مخطوط ).