فى السجن ، ومن علمه وفهمه فى تأويله للرؤيا ، ومن حرصه على إظهار شرفه وكرامته فى مسألة النسوة ما دل على أنه أهل لأن يرفع إلى أعلى المراتب ، ويولّى أسمى المناصب وذلك هو ما فعله الملك لحصافة رأيه وبصره بأقدار الرجال ، ولم يصرفه عن ذلك كونه غريبا أو فقيرا أو مملوكا ، كما تشير إلى ذلك الآيتان.
الإيضاح
(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) أي وقال الملك أحضروه من السجن إلىّ بعد أن وفيت له بما طلب : أجعله خالصا لى وموضع ثقتى ، فلا يشاركه أحد فى إدارة ملكى ولا تكون وساطة بينه وبينى. وقد جرت عادة الملوك أن يجعلوا الأشياء النفيسة خالصة لهم دون غيرهم ، قال ابن عباس : إن الرسول أتاه فقال ألق عنك ثياب السجن ، والبس ثيابا جددا ، وقم إلى الملك ، فدعا له أهل السجن ودعا لهم وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة ، فلما أتاه رآه غلاما حدثا ، فقال أيعلم هذا رؤياى ولم يعلمها السحرة والكهنة؟ وأقعده قدامه ، وقال لا تخف وألبسه طوقا من ذهب وثيابا من حرير وأعطاه دابة مسرجة مزيّنة كدابة الملك وضرب الطبل بمصر ـ إن يوسف خليفة الملك.
(فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ : إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) أي فأتوه به فلما كلمه وسمع ما أجاب به ، قال له إنك لدينا ذو مكانة سامية ، ومنزلة عالية ، وأمانة تامة ، فأنت غير منازع فى تصرفك ، ولا متهم فى أمانتك.
وفى هذا إيماء إلى أن الحوار بين المتخاطبين يظهر معارف الإنسان وأخلاقه ، وآدابه وجميع شمائله ، فيقدره من يعرف أقدار الرجال ويزنهم بفضائلهم ومزاياهم.
والظاهر أن الملك كلمه مشافهة بدون ترجمان ، لأن يوسف كان قد عرف اللغة المصرية من العزيز وامرأته بمحادثته إياهما ومع حاشية الوزير من حين قدم مصر ، ومن محادثته صاحبيه فى السجن.
وقد تكون اللغة التي كان يتكلم بها يوسف لغة جده إبراهيم وأولاده وحفدته وكانوا من العرب القحطانيين ثم تفرعت من هذه العربية الإسماعيلية فالمصرية والعبرانية