__________________
ـ إليه المعنى ويهجر فيه جانب اللفظ.
وقد ذهب الجرجانى فى هذه الآية إلى أنّ التقدير : مخافة أن تضلّ ، وأنشد قول عمرو :
......... |
|
فعجّلنا القرى أن تشتمونا |
أى : «مخافة أن تشتمونا» وهذا صحيح لو اقتصر عليه من غير أن يعطف عليه قوله «فتذكّر» لأنه كان التقدير : فاستشهدوا رجلا وامرأتين مخافة أن تضلّ إحداهما ، ولكن عطف قوله : «فتذكّر» يفسده ، إذ يصير التقدير : مخافة أن تذكر إحداهما الأخرى ، وإذكار إحداهما الأخرى ليس مخوفا منه ، بل هو المقصود ، قال أبو جعفر : «سمعت علىّ بن سليمان يحكى عن أبى العباس أن التقدير كراهة أن تضل» قال أبو جعفر : «وهو غلط إذ يصير المعنى : كراهة أن تذكّر إحداهما الأخرى». انتهى.
وذهب الفراء إلى أغرب من هذا كلّه فزعم أن تقدير الآية الكريمة : «كى تذكّر إحداهما الأخرى إن ضلّت» فلما قدّم الجزاء اتصل بما قبله ففتحت «أن» ، قال : «ومثله من الكلام : «إنه ليعجبنى أن يسأل السائل فيعطى» معناه : إنه ليعجبنى أن يعطى السائل إن سأل ؛ لأنه إنما يعجب الإعطاء لا السؤال ، فلما قدّموا السؤال على العطيّة أصحبوه «أن» المفتوحة لينكشف المعنى» ، فعنده «أن» فى «أن تضلّ» للجزاء ، إلا أنه قدّم وفتح وأصله التأخير.
وأنكر هذا القول البصريون وردّوه أبلغ ردّ : قال الزجاج : «لست أدرى لم صار الجزاء إذا تقدّم وهو فى مكانه وغير مكانه وجب أن يفتح أن». وقال الفارسى : «ما ذكره الفراء دعوى لا دلالة عليها والقياس يفسدها ، ألا ترى أنّا نجد الحرف العامل إذا تغيرت حركته لم يوجب ذلك تغيّرا فى عمله ولا معناه ، وذلك ما رواه أبو الحسن من فتح اللام الجارّة مع المظهر عن يونس وأبى عبيدة وخلف الأحمر ، فكما أن هذه اللام لمّا فتحت لم يتغير من عملها ومعناها شىء ، كذلك «إن» الجزائية ينبغى إذا فتحت ألا يتغيّر عملها ولا معناها ، ومما يبعده أيضا أنا نجد الحرف العامل لا يتغير عمله بالتقديم ولا بالتأخير ، ألا ترى لقولك : «مررت بزيد» ثم تقول : «بزيد مررت» فلم يتغير عمل الباء بتقديمها من تأخير».
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «فتذكر» بتخفيف الكاف ونصب الراء من أذكرته أى : جعلته ذاكرا للشىء بعد نسيانه ، فإنّ المراد بالضلال هنا النسيان كقوله تعالى : (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) وأنشدوا للفرزدق :
ولقد ضللت أباك يدعو دارما |
|
كضلال ملتمس طريق وبار |
فالهمزة فى «أذكرته» للنقل والتعدية ، والفعل قبلها متعدّ لواحد ، فلا بدّ من آخر ، وليس فى الآية إلا مفعول واحد فلا بد من اعتقاد حذف الثانى ، والتقدير فتذكر إحداهما الأخرى الشهادة بعد نسيانها إن نسيتها ، وهذا التفسير هو المشهور.
وقد شذّ بعضهم فقال : معنى فتذكر إحداهما الأخرى أى : فتجعلها ذكرا ، أى : تصيّر حكمها حكم الذّكر فى قبول الشهادة. وروى الأصمعى عن أبى عمرو بن العلاء قال : «فتذكّر إحداهما الأخرى بالتشديد فهو من طريق التذكير بعد النسيان ، تقول لها : هل تذكرين إذ شهدنا كذا يوم كذا فى مكان كذا على فلان أو فلانة ، ومن قرأ «فتذكر» بالتخفيف فقال : إذا شهدت المرأة ثم جاءت الأخرى فشهدت معها فقد أذكرتها لقيامهما ـ