وقال (ص ٦٢) : وإذا استحبَّ زيارة قبر غيره صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقبره أولى لما له من الحقّ ووجوب التعظيم ، فإن قلت : الفرق ـ يعني بين زيارة قبر النبيّ وغيره ـ أنَّ غيره يُزار للاستغفار له لاحتياجه إلى ذلك ، كما فعل النبيُّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في زيارته أهل البقيع ، والنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم مستغنٍ عن ذلك. قلتُ : زيارته صلىاللهعليهوآلهوسلم إنَّما هي لتعظيمه والتبرّك به ، ولتنالنا الرحمة بصلاتنا وسلامنا عليه ، كما أنّا مأمورون بالصلاة عليه والتسليم وسؤال الوسيلة وغير ذلك ممّا يعلم أنَّه حاصل له صلىاللهعليهوآلهوسلم بغير سؤالنا ؛ ولكنَّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أرشدنا إلى ذلك لنكون بدعائنا له متعرِّضين للرحمة التي رتّبها الله على ذلك.
فإن قلت : الفرق أيضاً أنَّ غيره لا يُخشى فيه محذور وقبره صلىاللهعليهوآلهوسلم يُخشى الإفراط في تعظيمه أن يُعبد. قلت : هذا كلام تقشعرُّ منه الجلود ، ولولا خشية اغترار الجهّال به لما ذكرته ، فإنّ فيه تركاً لما دلّت عليه الأدلّة الشرعيّة بالآراء الفاسدة الخياليّة ، وكيف تقدم على تخصيص قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «زوروا القبور»؟ وعلى ترك قوله : «من زار قبري وجبت له شفاعتي»؟ وعلى مخالفة إجماع السلف والخلف بمثل هذا الخيال الذي لم يشهد به كتاب ولا سنّة؟ بخلاف النهي عن اتّخاذه مسجداً ، وكون الصحابة احترزوا عن ذلك المعنى المذكور ؛ لأنَّ ذلك قد ورد النهي فيه ، وليس لنا أن نشرِّع أحكاماً من قبلنا (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) (١) فمن منع زيارة قبر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فقد شرع من الدين ما لم (٢) يأذن به الله ، وقوله مردود عليه ، ولو فتحنا باب هذا الخيال الفاسد لتركنا كثيراً من السنن بل ومن الواجبات.
والقرآن كلّه والإجماع المعلوم من الدين بالضرورة ، وسيرة الصحابة والتابعين وجميع علماء المسلمين والسلف الصالحين على وجوب تعظيم النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم والمبالغة في ذلك. ومن تأمّل القرآن العزيز وما تضمّنه من التصريح والإيماء إلى وجوب المبالغة
__________________
(١) الشورى : ٢١.
(٢) من هنا إلى قوله : ما يجب من الأدب. ساقط من الطبعة الثانية وأثبتناه من الطبعة الأولى.