ثانيا : إنّ السنن الإلهية الخفيّة أكثر من الظاهرة للإنسان منها ، وما أوتينا من العلم إلّا قليلا ، وإنّنا نستبعد أشياء لأنّنا لا نعرف الأنظمة ، فلو قيل لأحد من أجدادنا : سيأتي يوم يطير جهاز بعشرات الأطنان من الحديد في الفضاء ، بسرعة فائقة لما صدّق ، لأنّه لم يكن يعرف قوانين فيزيائية يعرفها الإنسان اليوم ، وقديما قال الإمام علي (ع) :
«الناس أعداء ما جهلوا» (٤)
وكذلك البشر ينكر البعث لأنّه لا يعرف ما أودع الله في ضمير الوجود من أنظمة ، كما لم يكن يعرف الإنسان كيف يجعل الله من الشجر الأخضر نارا ، فلعل ذرّات البدن التي تنفصل عنه بعد الموت تبقى ذات صلة خاصة به إلى أن يبعث الله من في القبور ، أو تطبع عليها سمات تشير الى مصدرها.
ثالثا : إنّ ذرّات الحرارة التي تنفصل عن الشمس وتخزن في الشجر الأخضر تبعث مرّة أخرى إليها ، ولكن دون أن يعدم منها شيء كما يحسب الجاهل ، كذلك ذرأت الجسم.
رابعا : ولعلّ في الآية إشارة لطيفة الى قانون الهيّ في الوجود أنّ فيه الغيب والشهود ، فهناك الشجر الأخضر تحسبه لجة ماء ، فإذا فيه كتلة وقود مختزنة ، كذلك الدنيا شهود الآخرة ، بينما الآخرة غيب الدنيا ، فأنت ترى جسد الميّت المسيء بينما هو في النار كما الزناد احتوى على نار مختزنة ، كما أنّ آكل مال اليتيم يحسب أنّه يتناول طعاما شهيّا ، ولكنّه ـ في الواقع ـ إنّما يأكل في بطنه نارا ، والذي يكذب لا يعرف أنّ نتنا خبيثا يخرج من فيه يلعنه به الملائكة ، وهكذا.
__________________
(٤) نهج البلاغة / خ (١٧٢) / ص (٥٠١).