ذنوبه ، فهرب إلى ربه ، ليس بجنّي ولكني إنسي مغرور ، قلت : مذ كم أنت هاهنا؟ قال : مذ ثلاثين سنة ، قلت : من أنيسك؟ قال : الوحش ، قلت : فما طعامك؟ قال : البهار (١) ـ يعني نبات الأرض ـ قلت : أما تشتاق إلى الناس؟ قال : منهم هربت ، قلت : أفعلى الإسلام؟ قال : ما أعرف غيره ، إنّ المسيح عليهالسلام أمر في بعض الكتب بالعزلة والانفراد عند فساد الناس.
قال عبد الواحد : فحسدته والله على مكانه ذلك.
أخبرنا أبو سعد أحمد بن محمّد بن البغدادي ، أنا أبو العباس أحمد (٢) بن محمّد بن القاسم الطّهراني ، وأبو عمرو عبد الوهاب بن محمّد بن إسحاق ، قالا : أنا الحسن بن محمّد بن أحمد (٣) ، أنا أحمد بن محمّد بن عمر ، نا عبد الله بن محمّد بن أبي الدنيا ، حدثني محمّد بن الحسين ، حدثني عمّار بن عثمان الحلبي ، حدثني حصين بن القاسم الورّاق ، قال : سمعت عبد الواحد بن زيد يقول :
خرجت إلى الشام في طلب العبّاد ، فجعلت أجد الرجل بعد الرجل شديد الاجتهاد ، حتى قال لي رجل : قد كان هاهنا رجل من النحو الذي تريد ، ولكنا فقدنا من عقله ، فلا ندري يريد أن يحتجز عن الناس بذلك أو هو شيء أصابه ، قلت : وما أنكرتم منه؟ قال : إذا كلّمه أحد ، قال الوليد وعاتكة : لا يزيد عليه قال : قلت : فكيف لي به؟ قال : هذه مدرجته ، فانتظرته فإذا برجل واله ، كريه الوجه ، كريه المنظر ، وافر الشعر ، متغير اللون ، وإذا الصبيان حوله وخلفه ، وهو ساكت يمشي ، وهم خلفه سكوت يمشون ، عليه أطمار له دنسة (٤) ، قال : فتقدمت إليه ، فسلّمت عليه ، فالتفت إليّ فردّ عليّ السلام ، قلت : رحمك الله إنّي أريد أن أكلمك ، قال الوليد وعاتكة : قلت : قد أخبرت بقصتك ، قال الوليد وعاتكة : ثم مضى حتى دخل المسجد ، ورجع الصبيان الذين كانوا يتبعونه ، فاعتزل إلى سارية ، فركع فأطال الركوع ، ثم سجد فأطال السجود ، فدنوت منه ، فقلت : رجل غريب يريد أن يكلمك ويسألك عن شيء ، فإن شئت فأطل ، وإن شئت فأقصر ، فلست ببارح أو تكلمني ، قال : وهو في سجوده يدعو ويتضرع ، قال : فقمت (٥) عنه وهو ساجد وهو يقول : سترك ، سترك ، قال : فأطال السجود حتى سئمت ، قال : فدنوت منه ، فلم أسمع له نفسا ولا حركة ، قال : فحركته ، فإذا هو
__________________
(١) البهار : نبت طيب الريح (القاموس المحيط).
(٢) ما بين الرقمين سقط من م.
(٣) ما بين الرقمين سقط من م.
(٤) أي وسخة ، يقال : دنس الثوب يدنس دنسا : توسخ.
(٥) مضطربة بالأصل ، وتقرأ : ففهمت؟.