فما ذا يعمل بجوهر لا فاعل ولا منفعل؟! ولم يضع الأرواح المقدّسة قبالة الأرواح الفاسدة ، ولم يحدث العلة من غير نقص ولا آفة ولم يذكر شيئا ليس فيه جدوى ولا ثمرة وهذا الفصل إذا أعطي مستحقّه من التّأمل ظهر منه ما يسقط به سخيف كلامهم ، وإن لم يكن مورده مورد الحجاج عليهم.
ألا ترى أنّ من لم يثبت القديم تعالى فيما لم يزل واحدا لا ثاني له ، وعالما بالأشياء قبل كونها وبعده ، وقادرا على كل ما يصح أن يكون مقدورا ، وحيا لا آفة به ، وغنيا لا حاجة به إلى غيره في شيء من إرادته ، وحكيما لا يبدو له في كل ما يأتيه ويفعله ، فننقل إلى ما هو أعلى منه ، بل لا يفعل إلا ما هو حسن وواجب في الحكمة والصّواب ، فقد جعله قاصرا ناقصا ، تعالى الله وجلّ عن صفات المخلوقين ، وهذا كما أنّ من الواجب أن يعلم أنّ القديم لو لم يبدع العالم أصلا لاستحال أن يتوقّف على وجوده ، أو يتوصل إلى إثباته ، لأن ذاته لم تكن ظاهرة للعيان ، ولا مستدركا بالحواس ، وأنّ الشيء قد يصح إثباته من طريق أفعاله كما يصح إثباته من جهة ذاته ، والأسباب وإن كانت متقدمة لمسبباتها بالوجود فلا يمتنع أن يكون في العقول أسبق إلى الوضوح.
وإذا كان كذلك فالعالم بثبات هذا العالم المحسوس موصول إليه من طريق الإدراك والمشاهدة ، والعلم بصانعه من طريق النّظر والمباحثة ، وقد تكلّم الناس في المعرفة بالله تعالى واختلفوا فزعم قوم أن المعرفة لا تجب على القادر العاقل وأنها تحدث بإلهام الله ، فكل من لم يلهمه الله المعرفة فلا حجة عليه ، ولا يجب عليه عقاب ، لأن عذر من ترك الشيء لأنه لم يعلم كعذر من ترك الشيء لأنه لا يقدر عليه ، والذي يدل على أن المعرفة لا تكون ضرورة لأنا يمكننا التشكك فيه. ألا ترى أنه كلما اعتقدنا الشيء بدليل فاعترضت شبهة في أصل الدّليل يخرج من العلم بذلك الشيء حتى تثبت حجّة بمحل تلك الشّبهة ، ولو كانت بالضّرورة لم يكن التّشكك ، وكان العقلاء كلّهم شرعا واحدا في العلم ، كما صاروا شرعا واحدا في أخبار البلدان المتواترة عليهم ، فبان بذلك أنها ليست بضرورة ، وأكثر الناس على أنها واجبة وهي من فعل الإنسان ، وإنما يقع أوّلها متولّدا عن النّظر.
قال البغداديون مستدلين : لا يخلو من أن يكون قد كلّفنا الله معرفته أو لا يكون كلّفنا وتركنا مهملين ، وتركنا سدى ، وإهمالنا لا يجوز عليه ويقال لهم في ذلك : إنّ الإهمال هو تضييع ما يلزم حفظه ، وترك مراعاة ما يجب مراعاته ، ألا ترون أنّ من لم يحفظ مال غيره لا يقال أهمله ، لما كان لا يلزمه حفظه فثبتوا أولا أن المعرفة بالله واجبة ، ثم ادّعوا الإهمال إذا لم يكلفناها. وقالوا أيضا : نحن نرى على أنفسنا آثار نعم ونعلم وجوب شكر المنعم ، فإذا يجب أن يعرف المنعم لشكره.