والجاهلون الملاحدة والخارجون من نور التّوحيد والاستقامة إلى ظلمة الشّرك فرق ، والضّلالة في عددهم في ازدياد ووفور ، وإفسادهم وجوه وفنون وقد فسّرت فقيل : ربما كانت من الحضانة والتربية وقلة الخواطر وغباوة الخليط وجهد المجاورة ، وربّما كان من تعظيم الأسلاف ، أو من وجه الآلاف ، أو من غباوة الدّاعية ونسل صاحب المقالة ، وكونه صاحب سن وسمت وإخبات وطول صمت ، ولله تعالى الحجّة البالغة عليهم ، وعلى طوائف المبتدعة من أهل الصّلاة على اختلاف أهوائهم ، وسيعلم الجافي على نفسه كيف ينقلب وقد فاته الأمر. ذكر بعضهم حاكيا عن قوم من الأوائل ، أنّ الدّهر والخلاء قائمان في فطر العقول بلا استدلال ، وذاك أنه ليس من عاقل إلا وهو يجد ويتصور في عقله وجود شيء للأجسام بمنزلة الوعاء والقراب ، ووجود شيء يعلم التقدم والتأخّر ، وأنّ وقتنا ليس هو وقتنا الذي مضى ، ولا الذي يكون من بعد بل هو شيء بينهما ، وأن هذا الشيء هو ذو بعد وامتداد. وقال : قد توهم قوم أنّ الخلاء هو المكان ، وأنّ الدّهر هو الزّمان ، وليس الأمر كذلك بإطلاق ، بل الخلاء هو البعد الذي خلا منه الجسم ، ويمكن أن يكون فيه الجسم ، وأمّا المكان فالسّطح المشترك بين الحاوي والمحوى ، وأما الزّمان فهو ما قدرته الحركة من الزّمان الذي هو المدة غير المقدرة ، فصرفوا معنى الزّمان والمكان المضافين إلى المطلقين ، وظنوا أنهما هما والبون بينهما بعيد جدا ، لأنّ المكان المضاف هو مكان هذا المتمكّن وإن لم يكن متمكنا لم يكن مكانا ، والزّمان المقدّر بالحركة يبطل أيضا ببطلان المتحرك ويوجد بوجوده ، إذ هو مقدر حركته ، فأمّا المكان بإطلاق فهو المكان الذي يكون فيه الجسم وإن لم يكن ، والزّمان المطلق هو المدة قدّرت أو لم تقدّر ، وليس الحركة فاعلة المدة بل مقدرته ، ولا المتمكّن فاعل المكان بل الحال فيه ، قال : فقد بان أنهما ليسا عرضين بل جوهرين لأنّ الخلاء ليس قائما بالجسم لأنه لو كان قائما به لبطل ببطلانه ، كما يبطل التّربيع ببطلان المربّع.
فإن قال قائل : إنّ المكان يبطل ببطلان المتمكن قيل له : أما المضاف فإنّه كذلك لأنّه إنما كان مكان هذا المتمكّن ، فأمّا المطلق فلا ، ألا ترى أنا لو توهّمنا الفلك معدوما لم يمكنا أن نتوهم المكان الذي هو فيه معدوما بعدمه ، وكذلك لو أنّ مقدرا قدّر مدة سبت كان ، ولم يقدر مدة يوم آخر ، لم يكن في ترك التقدير بطلان مدة ذلك اليوم الذي لم يقدر ، بل التّقدير نفسه ، فكذلك ليس في بطلان الفلك أو في سكونه ما يبطل الزّمان الحقيقي الذي هو المدة والدّهر ، فقد ينبغي أنهما جوهران لا عرضان ، إذ كانا ليسا بمحتاجين إلى مكان ولا إلى حامل فليسا إذا بجسم ولا عرض ، فبقي أن يكونا جوهرين.
وزاد على هذا الوجه الذي حكيناه بعضهم فقال : طبيعة الزّمان من تأكيد الوجود في