وذكر بعض أصحاب المعاني أنّ العيشة والعيش ليسا بالحياة ، ولكن ما يستعان به على الحياة واستدلّ بقوله تعالى : (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) [سورة النبأ ، الآية : ١١] قال : وهذا كما قال في الآية الأخرى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) [سورة القصص ، الآية : ٧٣] وقال في موضع آخر : (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً) [سورة الفرقان ، الآية : ٤٧] أي ما ألبسهم من ظلمته فلبسوه لباسا ، والنّوم سباتا أي سكونا وأنشد لأميّة :
ما أرى من يعشّني في حياتي |
|
غير نفسي إلّا بني إسرال |
وقال : المراد بقوله : يعشني يعينني على أمر الحياة ، والسّكون إنّما هو في اللّيل والابتغاء من فضله بالنّهار ، ولكن لمّا عطف أحدهما على الآخر أخرجا مخرج الواحد الجامع للشّيئين ، ونظير هذا من الكلام : لئن لقيت زيدا وعمرا لتلقينّ منهما شجاعة وفصاحة ، على أنّ الفصاحة لأحدهما والشّجاعة للآخر ، وهذا بمنزلة ما يقع في الجمع إذا قلت : في بني فلان خير وشر ، لأنّ الدّعوة قد ضمّتهم جميعا فانطوت على الخير والشرّ ، وإن كان الخير في جماعة والشّر في آخرين ، وكذا كلّ تثنية وجمع تعلّق الخبر به على الإجمال ، لأنّه يصير كالواحد.
وقال تعالى في موضع آخر : (وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) [سورة الفرقان ، الآية : ٤٧] أي : ينشرون فيه عن نومهم باللّيل ، والانتشار التّصرف. وقال في موضع آخر : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً) [سورة القصص ، الآية : ٧٢] أي دائما ، يقال : هو يسهر سهرا سرمدا إذا لم يكتحل فيه بغمض ولا يكون السّرمد ما يقع فيه فصل ، وقوله تعالى : (تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) [سورة النمل ، الآية : ٤٩] أي تحالفوا ، وكلّ عمل باللّيل تبييت. ويقال : هو أمر دبّر بليل. ويقال للصّقيع : البيوت ، لوقوعه باللّيل ، وفي القرآن : (إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ) [سورة النساء ، الآية : ١٠٨] وأنشد أبو عبيدة شعرا :
أتوني فلم أرض ما بيّتوا |
|
وكانوا أتوني بأمر نكر |
وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) [سورة الفرقان ، الآية : ٦٢] الخلفة ما خلف بعضه بعضا أي كلّ واحد يخلف صاحبه ، قال زهير :
بها العين والأرآم يمشين خلفة |
|
وأطلاؤها ينهضن من كلّ مجثم |
ومعنى لمن أراد أن يذكر ، يريد لمن أراد أن يتذكّر ويستدلّ على نعم الله على خلقه وعلى أنواع لطفه فيما تعبّدهم به وتظاهر حججه وتبيانه فيما ندبهم إليه ، وهذا كما قال تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) [سورة القمر ، الآية : ٣٢] وكقوله تعالى : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا