ورجعت تلك العيون الأولى إلى ما كانت عليه ، وربّما جرت الأودية والأنهار من ثلوج تقع على جبال ، فإذا أصابها الحر ذابت قليلا قليلا ، فجرت منها الأودية والأنهار ، فإن كان ذلك الثّلج كثيرا لم تنقطع تلك الأودية والأنهار ، وإن كان قليلا انقطعت.
وأما الأبحار فإنما هي من مواضع عميقة في الأرض والماء من شأنه يطلب العمق ، فالمياه تنصبّ إلى تلك المواضع العميقة من الأنهار والأودية والسّيول ، يستنقع فيه فما كان من ذلك الماء عذبا فإنّه يصير فوق لخفّة العذوبة وما كان منه مرّا وملحا صار إلى أسفل لثقله ، فإذا مرّت الشّمس عليه رفعت ما كان منه عذبا لخفّته ولطافته ، وما كان منه لطيفا جدا صار هواء ، وما كان منه في اللّطافة دون ذلك صار ندى ومطرا.
فأمّا ما يقال : لم لا تستبين الزّيادة في البحار مع كثرة ما يجري فيها من الأنهار والأودية ، فذلك لكثرة سعتها وإنها لا تبقى بل ترفع الشّمس لطيغها فيصير منها الذّرى والأمطار ، وكذلك أيضا لأنّ الذي يعود إليها في الأودية والأنهار وربّما نقص بعض البحار في طول الأزمان أو زاد بعضها ، ولكنّ ذلك لا يستبين لطول الزّمان الذي يحتاج فيه إلى أن يستبين ، لأنّ ذلك لا يستبين في قدر عمر إنسان أو إنسانين.
قالوا : وإن قلنا : إنّها تزداد وتنقص ، لم يبعد من قبل أنّه ليس من الواجب أن يكون البخار الصّاعد منها سواء مثل الأودية والأنهار السّائلة فيها ، بل قد يكون أحدهما أكثر من الآخر ، فلذلك قلنا : قد تزيد البحار وتنقص.
وأما ملوحة ماء البحر ومرارته ، فلكثرة مرور الشّمس عليها فإنّ الرّطوبة إذا خالطتها الحرارة صارت مالحة ، فإن أفرطت الحرارة عليها صارت مرة ، ومثال ذلك العرق والبول ، فإنّهما مالحان جميعا لعمل الحرارة فيهما.