القمر يجتمع مع الشّمس في مدة هذه الأيام اثنتي عشرة مرة ، فجعلت السّنة اثني عشر شهرا ، وهي التي تسمّى الشهور القمرية ، وجعل الفلك اثني عشر برجا لأنّ الشّمس تدور في هذا الفلك دورا طبيعيا فمتى انتقلت من نقطة واحدة بعينها عادت إلى تلك النقطة بعد ثلاث مائة وخمسة وستين يوما وقريب من ربع يوم ويستعد فيها فصول السّنة التي هي الرّبيع والصّيف والخريف والشّتاء. ولهذه العلة سميّت هذه الأيام سنة الشّمس.
فلمّا كانت العرب تراعي القمر ومنازله ، وهي ثمانية وعشرون منزلا في قسمة الأزمان والفصول والحكم على الأحداث الواقعة في الأحوال والشّهور مراعاة عجيبة. ولهم في ذلك من صدق التأمّل واستمرار الإصابة ما ليس لسائر الأمم حتى تستدل منها على الخصب والجدب ، ويعتمد منها على ما تبنى أمورهم عليه في الظن والإقامة ذكّرهم الله تعالى بنعمته عليهم فيها ، وعلى جميع الخلق ودعاهم إلى إقامة الشّكر عليها ليستحقّوا المزيد ، فقال تعالى في موضع آخر : (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) [سورة نوح ، الآية : ١٥] وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً) [سورة يونس ، الآية : ٥] فقوله : (تَبارَكَ) تعليم منه أي قولوا تبارك ، والمعنى دام ذكره وثبت بركته عليكم ويمنا واستدامة الخير ونفعا.
وأصل البروج في اللّغة الحصون ، فاستعيرت على التّشبيه وقوله تعالى : (جَعَلَ فِيها سِراجاً) [سورة الفرقان ، الآية : ٦١] أي الشّمس وقد كرر ذكر الأنوار والظّلم في عدة مواضع ؛ ولم يجعل لفظة السّراج من بينها إلّا للشّمس ، وذلك لشيء حسن وهو أنّ الضّياء والنّور والمصباح وما أشبهها من أسماء ما يستضاء به لا يقتضي شيء منها أن يكون في الموصوف به اتقاد وحمى إلّا الشّمس ، فنبّه تعالى على ذلك فيه بأنّ سماه سراجا ، ولا تسمى سراجا حتى يكون محرقا ، وكشف الله تعالى عن المراد بقوله في موضع آخر : (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) [سورة النبأ ، الآية : ١٣]. والوهج ضوء الجمر واتّقاده ، فلهذا خصّ الشّمس بأن وصفت بالسّراج وهذا بيّن. قوله : (جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) [سورة الفرقان ، الآية : ٦٢] أي مختلفة يجيء هذا خلف هذا ، وهذا خلف هذا ، ويجوز أن يريد به أنها تجيء وبعضها يخلف بعضا لأنها لا تستقرأ إلا بهذا بل تتابع وتختلف في قصورها ويكون شاهد هذا الوجه قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) [سورة آل عمران ، الآية : ١٩٠]. وانتصاب خلفة يجوز أن يكون على الحال ، وقوله : (لِمَنْ أَرادَ) مفعولا ثانيا لجعل ، والمعنى صير اللّيل والنّهار على اختلافهما لمن أراد تذكرا ، أو تشكرا ، واللّام في لمن تعلق بجعلنا ، ويجوز أن ينتصب خلفة على أنه مفعول ثان لجعل ، واللّام في لمن تعلق بها حينئذ أي صيّر خلفة لهم ومن أجلهم والوجه في تفسير خلفة حينئذ أن يكون من الخلافة لا من الاختلاف فاعلمه ،