فإنّ صلة إحدى النّعمتين بالأخرى فيهما كصلة الإبصار بالضّوء ـ والأنفاس بالجو ـ وكما هدى إلى الاستدلال بالشّاهد على الغائب ـ وبالجلي على الخفي ، وكثر ما أشرت إليه يمرّ عليه المارّون ، وهم عنها معرضون.
والثّاني : التّذكير بحكم العرب في لغاتهم ـ وآدابهم ـ وعاداتهم ـ ومآربهم ـ مع تلاحق أقطارهم ـ وتضايق أوطانهم ـ ورضاهم بالعفو من مقاماتهم ـ ومآبهم على اختلاف أسبابهم ـ وطرقهم ، واقتنان هممهم ـ ووجههم ـ هذا إلى ما خصّوا به من الفضائل دون الأمم ، وتوحّدوا به من جلائل المنح والنّعم ، وفوائد هذين القسمين في الاتّساع كالشّمس في ضيائها ـ والرّيح في هبوبها يتكافأ في نيل الحظ منهما المحب والكاره ، ويعترف بهما إذا أنصف المسلم والمعاند.
والثّالث يحوي لمعا من الأشعار ـ وغررا من النّوادر والآثار ـ اقتضى ذكرها مناسبتها للأزمان التي هي من همّنا وفرضنا على أنفسنا الوقوف تحت ظلّها ، ولو تقصّينا أبوابها لفني العمر وبقي منه الكثير فتطرّفنا منها ما تطرّفنا إيذانا بأنّ الغفلة لم تحل دونها ولئلا تخلو تضاعف الأبواب من بعضها فليعذر النّاظر فيه هذا الكتاب. إذا انتهى إلى المواضع التي أشرنا إليها متصوّرا حالنا ، وليحذر إلحاق الغائب بنا ، ففي مستحسنه إن شاء الله ما يشغل عن مستهجنه ، والشّمس يطمس نورها ـ ما أحاط من الكواكب بها ـ وقد قيل : لكلّ حسناء ذامّ.
واعلم أنّ من حقّ المصنّف إذا جمع الأصول بحقائقها ـ واستوفى الفروع بلواحقها ـ أن يمنع الخاطر من تجاوز الأنس بالميسور ، إلى وحشة المعسور ، ويدفع الهاجس من الخروج عن مساعدة الألوف إلى مشامسة الثّغور ، حرصا على بلوغ غاية شأوه لا يلحقها ، ودفعا في وجه ممكنة جهده لا يحيط إلا بها ، لأنّ التّحفظ مع الإقلال أقرب ـ وهو مع الإكثار أبعد ـ ونصرة الرّأي في مجاذبة الهوى حصن من النّدامة ـ وأمن من الملامة ، ولأنّ البليغ وإن كان مؤيدا في خصله مسددا في نقده ، يصحب التّثبت ويجتنب التّجوّز لا يعجزه ما غاب ـ ولا يغلبه ما راب ، فمن الواجب عليه أن يجتنب الاستبداد ـ عند الاستعداد ـ ويحاذر الملال ـ قبل حصول الكلال ، لأنّ من عاف مصادر الغرور ـ لم يركن إلى موارد الحبور ـ فتراه يصافح المذموم بيد الاحتقار ـ متهاتفا فيطرحه ، ويكافح المرذول بسيف القباحة متأنفا فيتنزّه عنه وترك الشّر قبل الاختيار ـ أفضل من ملابسة على الاغترار والأدب حبس العقول ، والتأدّب اكتساب القلوب ـ والاستنباط جوالب الأفكار ، والبحث عن المكامن بأداة البصائر والأبصار ، ولكلّ منها أسباب مكرمة ـ وأعلام مرفعة ـ يسيره كاسب الجمال ـ وكثيره كاسي الجلال ولا غرو فإنّ السّجايا تدخلها المتاجرة والمرابحة ، فمنها ما هو أمحض من الكرم ـ وأنزه من الدّنس ـ وفي الثّناء الباقي الدّهر خلف من نفاد العمر.