فصل آخر
وهو بيان قوله تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٢٤] وبيان قول القائل : الله أعلم بنفسه من خلقه والفصل بينهما.
أما قوله تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [سورة الأنعام ، الآية : ١٢٤] فلا يجوز أن يكون انتصاب حيث على حد انتصابه إذا كان ظرفا لأنّ علمه تعالى في جميع الأماكن على حدّ واحد لا يدخله التّزايد والتّناقص ، وإذا لم يسقم حمل أفعل على زيادة علم في مكان فيجب أن يحمل على انتصابه انتصاب المفعول به ، ويكون العامل فيه فعلا مضمرا يدلّ عليه قوله: (أعلم) ويحصل الاكتفاء بقوله : (اللهُ أَعْلَمُ) ثم أعلم يدل على يعلم مضمر أو التّقدير الله أعلم العالمين يعلم حيث يجعل رسالاته فيختار لأدائها من يصطفيه ومثل هذا قول الشّماخ شعرا :
وجلاهما عن ذي الأراكة عامر |
|
أخو الحضر يرمي حيث تكوى النّواجر |
فقوله : حيث مفعول لأنه هو المرمي إذ لم يجز أن يكون المعنى يرمي شيئا في ذلك المكان وهذا مثل قول الآخر :
أكروا حمى للحقيقة منهم |
|
واضرب منّا بالسيوف القوانسا |
انتصب القوانس بفعل مضمر دلّ عليه قوله واضرب منا.
وأما قول القائل : الله أعلم بنفسه من خلقه حتى قيل : لم يزل معلوما لنفسه فاعلم أنّ هذا الكلام له منصرفات بعضها يجوز ويحسن في وصفه تعالى ، وبعضها يمتنع ، فإن أردت بقولك نفسه صفة لأنه به حسن ، وجاز ويكون هذا كقوله في صفة قدرته وتدبيره وعظمته وإرادته وكرمه ورحمته: (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [سورة الرحمن ، الآية : ٢٩] وكذلك إن أردت أنّ علم العبد قد يعترض فيه الشّك ويتسلّط عليه النّسيان ويعتريه الآفات كالغشي والنّوم والموت فتعطله وعلم الله يدوم ويثبت على حد واحد كان صوابا وقائما وصحيحا (وإن أردت أنّ علمه بذاته متكامل فهو يسعها وعلم خلقه بها متناقص فيعزّ عن الإحاطة بها كان غير لائق به وممتنعا من تجويزه فيه ، وكذلك إن أجريت مجرى قول القائل إنّ جبرائيل أعلم بالله من الإنسان ، تريد أنّ علمه أعلق به وألزم له كما يزداد حبّا على حبّ ، ويكون تعين أثبت من تعين امتنع أيضا وذكر النّفس ليس يثبت به شيء غير الذات وكذلك الوجه في قوله تعالى : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) [سورة الرحمن ، الآية : ٢٧] وليس ذلك على ما ينسب إلى المحدثين من الأعضاء وكذلك العين إذا قلت عين الشيء ويصح أن يقال : الله أعلم بنفسه من خلقه ويراد أنه أذكر لوجوه القدرة وصنوف ما تدل عليه الحكمة والعظمة